من الملامح التجديدية في شعر الشاعر الكبير / مظفر النوّاب/..، كتابة مقدمات نثرية قصيرة ومكثّفة – غير مسبوقة - لمعظم قصائده الشعبية في مجموعته الرائدة (للريل وحمد) والمجموعة – القصيدة ( حجّام البريس ) وبعض القصائد اللاحقة ، ومثل هذه المقدمات هي َ
المفاتيح الذهبية لفتح مغاليق صناديق شعره المليئة بالأسرار .
إنَّ القصيدة الشعبية في نمطيتها التلقائية التقليدية قبل عام 1956 - تاريخ بداية كتابة قصيدة “للريل وحمد” ..، لم تكن قد توافرت على هكذا ملمح ٍ فني ، وبذلك يكون النواب هو صاحب التأصيل الأول في إضافة المقدمات النثرية كإستهلالات للقصيدة الشعبية ، بعد ان كان السبّاق في تجديد هذه القصيدة وتحديثها . لم يكتفِ النواب بهذه المقدمات ، بل إفتتح مجموعته ( للريل وحمد ) بنص مسرحي بالفصحى مجتزأ من مسرحيته ( الشاعر ليس استيراداً ) ، ليؤكد البعد الدرامي فيما يقوله شعراً ( الصوت 10 : كم يتعذب ؟ الصوت 9 : مَن قالَ له يبقى حيّاً في الأيام ؟ مَن يبقى حيّاً يتعذب ) ..، كما اضاف مقدمة نثرية كمفتتح ثان ٍ للمجموعة (ماأظنُّ ارضاً رويت بالدم والشمس كأرض ِ بلادي ، وما أظنُّ حزناً كحزن الناس فيها . ولكنها بلادي ، لا ابكي من القلب ولا أضحك من القلب ، ولا أموت من القلب ، إلّا فيها ) .
أما مقدمات القصائد في ( للريل وحمد ) فقد جاءت على النحو الآتي :
على ماء الصبح احبته ُ..على ماء الليل ، كان للهجر قمر ، ومرَّ قطار – قصيدة “ للريل وحمد “ . 1959 – بدأ الاقطاعيون بنهر الكحلاء ، وابتدأت الردّة – قصيدة “ مضايف هيل “ . 1961 – الدولة مدانة لأنها قتلت سعود – قصيدة “ عشاير سعود “ . ثم جاء الليل..ثم جاءت الريح – قصيدة “ جايتنه مزنه” . ولايزالون يرون في الأعراس مهراً يعبر في آخر الليل – قصيدة “ مامش مايل “ . 1964 – أغنية عن النبع الذي يسهر – قصيدة “زرازير البراري” . كفى رياء..كنّا ننتظر الحزن – قصيدة “ عودتني” . وانتظرت عرسها المستحيل – قصيدة “ ياريحان” . 1952 – طفل ميّت على الماء ، فلاحو ازيرج هزموا الحكومة ، تعرضت جموع الفلاحين الثائرة لنيران الاسلحة الحديثة ، الثوار يتراجعون نحو الاهوار ، سفينة تأتي في نهر الهدّام – قصيدة “ سفن غيلان ازيرج “ . 1962 - الأيام تذهب ..وانت تذهب ..ويظل العشق والحنين والرصاص في الأغنية – قصيدة “أيام المزبّن “. 1960 – ولمّا عادت المشاحيف محملة بالحزن ، أين الجرف يا رائحة القصب – قصيدة “ فوكَ التبرزل “ . 1964 – عن الأيام التي لاتمر مرّةً أخرى –قصيدة “ جنح إغنيده “ . 1961 – الميمونة ، أُوقف الفلاحون ،اُشعلت النار في بيوت القصب، وعلى نار البيوت استبيحت البنات، واكتفينا ببرقيات الاحتجاج– قصيدة “جَد ازيرج “ . 1965- لقد سُرقنا مرّتين –قصيدة “ باكَوك “ . 1961 – كان هو والعبارة يذهب ويأتي بين الضفتين..كيف نحب الذي يذهب ويأتي؟! . أما في المجموعة – القصيدة
( حجّام البريس ) فقد كتب الشاعر مقدمتين، الأولى على صفحة الغلاف الأول : ليس الحزن أن تحزن ، انما أن لاتحزن ، إنهم يوزعون منشورات وردية عن الجريمة ، أولئك الذين استلموا حصتهم . انكم شركاء اصيلون في قتل حجّام البريس وبهذا تمت ادانتكم .
أما المقدمة الثانية فقد جاءت في استهلال القصيدة : ليكن ..قد حمل الأسم الذي يليق بالانسان حتى النهاية .
و بالأنصات العميق والتمعن الدقيق في هذه المقدّمات الاستهلالية ، وملاحظة دلالة الزمان والمكان ، يكون الاعتقاد جازما بأنها المفاتيح الذهبية لفتح مغاليق صناديق النواب الشعرية ، وانها التأثيث الأول لموضوع القصيدة ، كونها لم تأتِ إضافات تزويقية ، وانما التمهيد التاريخي المُحمّل بالجماليات الفنية ، هذا التمهيد الذي يقود الى اكتشاف السرّية الشعرية واسباب هذا البوح الشعري الممتليء بالتجربة الحياتية الراصدة للتحولات السياسية والاجتماعية والنفسية . إنَّ / النواب / يُقيم صلاته الشعرية مع الحياة بوعي ثقافي عال ٍ ، لذلك نراه يجد في النثر قوّة تقود الى الشعري ، وهكذا شعّت مقدماته النثرية وكأنها المتمم الاستباقي لفكرة الشعروضروراته الفنية العالية...