اخر الاخبار

يوجه بيير سوندغرين في كتابه "الثقافة والحركة العمالية"، الصادر في عام 2007، نقداً للنشاط اليساري، حين يقتصر على تبني مفاصل من الثقافة البرجوازية، ويكتفي برصد مسارات انتشارها بين الناس، في وقت تتطلب فيه المواجهة الجادة للغزو الإمبريالي، تسليط الضوء على أفضل ما لدى الطبقة العاملة كالحس العملي والنزاهة والتضامن الرفاقي، وعدم التنكر للهوية ولتراث اليسار، واعتماد حياة الشغيلة جوهراً للنتاج الإبداعي.

ويرى المتفقون مع سوندغرين، بأن تطور المجتمع، وإن لم يؤدِ بالضرورة لولادة بشر بذائقة مختلفة جذرياً بسبب تشابه الذوات الداخلية للناس، فإنه يجعلهم قادرين على خلق ثقافة يحبون بها الحياة ويفرحون بالعمل الجماعي ويحتفون بالخلق الفني الذي يشبع حاجاتهم الروحية، وما على اليسار سوى أن يمكنّهم من التمتع بهذا الإبداع وامتلاك القدرة على نقده وبالتالي تبني رؤية فاعلة للعالم، دونما الحاجة لشهادات مدرسية في الفلسفة أو العلوم.

ولهذا يرون بأن السبب في شعور الأجيال الحالية بتقادم تعابير اليسار، يكمن في الحُجب الثقيلة التي أخفت التباين الجوهري بينها وبين الثقافة البرجوازية، خاصة في ظل رسوخ مفهوم غريب، اعتبر هذه الثقافة راقيةً ومرتبطةً بعلّية القوم، مقابل اقتصار الثقافة الاشتراكية على هموم حياتية وطبقية "سطحية"، سرعان ما ماجت الأرض تحت اقدامها حين ضعُف الموج اليساري في العالم.

ورداً على تساؤل الكثيرين عن المسارات التي ينبغي تبنيها كي تعود ثقافة اليسار زاهية من جديد، يقترح هؤلاء تسليط الضوء بقوة على ما ينقص الثقافة البرجوازية من قيم، فالحياة ذات المعنى الحقيقي فيها مخصصة لأساطين المال ممن يمتلكون مجاميع فنية تتجاوز قيمتها ملايين الدولارات، ولا تعني لها شيئاً فرحة الوجود البسيطة والعمل الجماعي، تماماً كافتقادها للنبل الانساني، حين تكرس الاغتراب جراء استغلال الانسان لأخيه الانسان، وتمنح الربح علوية مطلقة تُفسد بها كل القيم الأخلاقية، إضافة الى تمسكها بأكذوبة فاضحة تقول باستقلال الجانبين الاقتصادي والأخلاقي في المجتمع عن بعضهما البعض، في وقت لم تعرف فيه البشرية مجتمعاً رأسمالياً يوفر مستويات راقية من الحرية والمعرفة.

ويسدد هؤلاء سهام نقد عنيف لاستسلام وخيانة البعض ممن يلتزمون الصمت أمام الظلم وانتهاكات الحقوق والكرامة الانسانية، وينعتون البروليتاريا بنقص الثقافة ويسفّهون موسيقاها وفنونها المختلفة ويرفضون مذعورين فكرة انتقاد الثقافة البرجوازية ومثاليتها ومعاييرها المزدوجة، ويتبنونها كدليل إرشادي لتقييم جميع أشكال التعبير الثقافي الأخرى، حتى داخل اليسار، ويبررون أكاذيبها بالأهداف "النبيلة" التي تبتغيها، غافلين أو متناسين بأن الأكاذيب هي أقسى معول تُهدّم به مصداقية أي قضية، وإن مهمة الثقافة البرجوازية الأرأس تكمن في الحفاظ على الهيمنة الأيديولوجية لهذه الطبقة عبر السيطرة الشاملة على نظام الإنتاج الثقافي وتبرير المصالح الخاصة لطبقة واحدة رغم ما تسببه من إثقال على باقي البشر.

ويرى هؤلاء بأن نجاح اليسار في تطوير ثقافته يعتمد على تحريرها من الرؤى اللامحدودة للحداثة والمثالية التربوية والنخبوية، كي تصبح التزاماً أخلاقياً تجاه الظروف المعيشية للآخرين، وموقفاً نقدياً تشكيكياً ضد كل غطرسة، وقدرةً على تحرير النتاج الإبداعي من قيود آليات السوق وإظهار قوة المثل اليساري كنقطة انطلاق ضرورية لحلول اجتماعية واقعية. وأن يُدرك أخيراً بأن المستوى الثقافي الفعلي لا يحدده عدد الكتب التي تُقرأ أو تُكتب، بل فن التعامل الإنساني مع الآخر، متفقاً كان أم مخالفاً، وهي اشتراطات لا تمتلك البرجوازية والليبرالية الجديدة منها شيئاً مفيداً لتتعلمه الطبقة العاملة، التي ينبغي أن لا تتردد في الاستفادة من البنى التحتية للجهاز الثقافي البرجوازي واستخدامه ضد نفسه.

عرض مقالات: