اخر الاخبار

لم يولد حمزة الخلف من رحم المدن ولا من رفوف المكتبات، بل وُلد من خاصرة الأرض كنبع صغير يعرف طريقه بين الحصى. ولدته أنامل شمران الياسري كما تولد الأشجار في فجر هادئ، مغموسة جذورها في الطين، وعيناها في الأفق. حمل معه حكمة الحقول وأصوات السواقي وعرق المواسم الذي يتصبب من جباه الفلاحين، وفي ملامحه تتشابك ثلاث طرق كبرى نحو الفلسفة: طريق ماركس، وطريق سارتر، وطريق نيتشه.

فماركس أعطاه عينا ترى كيف يمكن لجدول ماء أن يكون عرشًا، ولورقة ملكية أن تصبح سيفًا، فالساقية عنده ليست ماءً بل شريانًا يمدّ الحياة أو يقطعها بيد واحدة. حمزة الخلف لم يحتج إلى رأس المال ليعرف أن الكلمة إذا صدرت من فم السلطة قد تصبح مفتاحًا يفتح أبواب الرزق لقلة ويغلقها عن كثيرين. الساقية في نظره ليست ماءً يجري، بل نبض حياة؛ من يتحكم بها يمسك برقاب العطاش، ومن يمسك برقاب العطاش يفرض شروطه على الحقول والوجوه. في مجالس القرية يردد: «الأرض إلنا حتى لو الدفتر مو باسمنا»، وهي ليست جملة عابرة بل إعلان أن الحق يسكن فيمن يزرع، لا فيمن يملك ورقة مختومة. وكل موسم حصاد يذكره أن العرق قد يذهب لغير صاحبه، فيذوق مرارة الاغتراب حين يفقد الإنسان ثمار جهده لأن يدًا أخرى قبضت عليها. ومع ذلك لا يدع المعنى يضيع، بل يعيده إلى أهله بحيلة عادلة وبعزم الجماعة، فيتحول الاحتجاج الصغير إلى فعل يومي يحفظ الكرامة تحت سقف نظام يميل للجور. حمزة الخلف لا ينادي بالثورة الكبرى، لكنه ينسج من التعاون قانونًا محليًا للماء، ويضع المتنفذ أمام مرآة الجماعة حتى تتصدع الهيبة من الداخل. أما سارتر فقد منحه يقينًا أن الحرية ممكنة حتى داخل القيد، وأن الاختيار ليس بين الطاعة والتمرد، بل بين كيف تطيع ولأي غاية. وحين تأتي الأوامر القاسية، يبتسم حمزة ويقول: حاضر، ثم يمضي ليحيل الطاعة إلى عدالة لا إلى إذعان. عند سارتر، الإنسان محكوم بالحرية حتى وهو مقيّد، وما يختاره حمزة ليس بين التمرد والطاعة فقط، بل في الكيفية التي يطيع بها ولأي غاية يختار ذلك. الحرية هنا ليست شعارًا، بل حسابًا عميقًا لأثمان الطرق: إن عاندتَ السلطة خسرتَ الأمان، وإن صمتَّ خسرتَ نفسك. فهو لا يهرب من القلق الذي يسبق القرار ويلحقه، بل يواجه ويختار ثم يتحمل العواقب، فيصبح ثقل المسؤولية طاقة نضج لا عبئًا. وسوء النية قناع يختبئ خلفه من يفرّ من حريته («أنا مجرد موظف… الأوامر أوامر»)، وفي القرية يتخفّى المختار وراء التوجيهات، والفلاح وراء «ما باليد حيلة». حمزة يزيح القناع، لا يتصنع العجز، يخطئ ويصيب، لكنه يوقّع اختياراته باسمه. حرية حمزة ليست نزوة فردية، بل ثمرة مشاورة وعُرف ومسؤولية مشتركة، حيث الوجودية تتجسد في أخلاق جماعية تحفظ الكرامة. أما نيتشه فقد وضع في يده ضحكة تكشف هشاشة المأساة. فحين يقتحم رجال مسلحون بيتًا في واقعة هشة، يمتزج الخوف بلمعة سخرية في عينيه، يلتقط عبث المشهد فيبتسم في سره؛ لا ليستخف بالمحنة، بل ليكشف هشاشة القوة حين تتحول إلى عرض مسرحي مرتبك. فعند نيتشه، الضحك في وجه الألم ليس خفة، بل قوة الروح التي ترى الأصنام تتشقق تحت وطأة الواقع. القانون يقول طاعة، والضمير يقول عدل، وحين يراوغ حمزة ظالمًا لينقذ حقًا، فهو يعيد تعريف الفضيلة: فالصدق ليس فضيلة إذا خدم الظلم، والمراوغة ليست رذيلة إذا صانت الحق العام. إرادة القوة عنده ليست سحقًا للآخرين، بل نحت طريق في جدار ضيق بلا جيش ولا منبر، لكنه يحيل قلة الخيارات إلى اختراع عُرف جديد، تحالف محلي، وضحكة تهز هيبة المتغطرس حجرًا بعد حجر. وبوصل أخير بين العوالم الثلاثة، نعرف أن حمزة الخلف قد أخذ من ماركس عدسة تكشف الصراع بين الماء والأرض والقانون، ومن سارتر أخذ شجاعة أن يختار داخل الممكن وأن يحمل وزر قراره، ومن نيتشه أخذ ضحكة تكسر التمثال وميزانًا يزن الأخلاق بثمارها لا بشعاراتها. وعندما تتشابك هذه الخيوط في قلب واحد، ندرك أن حمزة ليس شخصية ورقية، بل أسلوب حياة، ليذكرنا أن الفلسفة لا تُكتب فقط، بل تُزرع وتُسقى وتُحصد، وأن العدالة شجرة تنبت حين تتلاقى جذور الماء والضمير والذكاء.

عرض مقالات: