في وقت تواصل فيه السلطات الرسمية التشديد على “متانة الوضع المالي” و“انضباط الدَّين العام”، تكشف المؤشرات الاقتصادية والمالية عن واقع أكثر تعقيداً مما تعلنه التصريحات الحكومية. فالدَّين الداخلي يرتفع بوتيرة مقلقة، والموازنة تتعثر بين خلافات سياسية وقرارات قضائية، فيما تتراكم الحسابات الختامية غير المحسومة لتزيد من ضبابية المشهد المالي. وبين تفاؤل حكومي يتحدث عن ديون خارجية “مريحة”، وتحذيرات خبراء من هشاشة البنية الإنتاجية وضعف الحوكمة، يبدو الاقتصاد العراقي اليوم أمام لحظة اختبار حقيقية تهدد استقراره وقدرته على إدارة التحديات المقبلة.
توسع مقلق في الاقتراض الداخلي
ويقول الخبير الاقتصادي أحمد عيد، أن الوضع الاقتصادي في العراق يشهد تحركات مقلقة رغم تصريحات الحكومة التي تؤكد أن الدين العام لا يزال ضمن الحدود الفنية المقبولة.
ويضيف عيد لـ"طريق الشعب"، أن "الحكومة تقول إن الدين ما زال ضمن الحدود الممكنة من الناحية الفنية، لكن الواقع يشير إلى اتجاه مقلق بسبب توسع الإنفاق والاعتماد الكبير على الاقتراض المحلي، مما يفرض ضغوطاً على السيولة والاستقرار المالي".
ويشدد على ضرورة ربط أي دين جديد بمشاريع إنتاجية حقيقية، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لإصلاح النظام الضريبي والجمارك في العراق، بهدف تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي والحد من تفاقم العجز المالي.
ويجد عيد، أن موضوع صرف الدينار العراقي يحمل مخاطر اجتماعية كبيرة، لأن أي تخفيض جديد لقيمته سيؤدي إلى زيادة معدلات التضخم، في ظل اعتماد الاقتصاد العراقي الكلي على الاستيراد والإيرادات الخارجية. ومن هذا المنطلق، يرى أن الخيار الأكثر واقعية هو تثبيت سعر الصرف الحالي، مع تشديد الرقابة على نافذة العملة ومنع عمليات "التسرب الخارجي" التي تؤثر سلباً على سعر العملة المحلية.
وبالحديث عن ملف الاكتفاء الذاتي من الوقود، يصف عيد هذه الخطوة بأنها "مهمة لتقليل الضغط على العملة الصعبة"، لكنه يشير إلى أن هذه الخطوة لن تكون مستدامة دون معالجات تقنية متخصصة، تشمل تحسين كفاءة المصافي، وحرق الغاز بطرق أكثر فعالية، بالإضافة إلى ضبط التهريب الذي يُعد أحد التحديات الكبيرة.
ويقول إن أزمة الحسابات الختامية تمثل إحدى الثغرات الجوهرية في الإدارة المالية العراقية، مؤكداً أنه "لا يمكن بناء موازنة دقيقة دون معالجة هذا التراكم وتمكين الرقابة المالية من القيام بدورها بشكل فعال وواقعي".
وختاماً، يلفت عيد إلى أن الرهان الأكبر الذي يواجه الاقتصاد العراقي هو تقليل الاعتماد الكلي على النفط، وهو أمر لم يُلمس حتى الآن بشكل جدي، منبها إلى أن الحل يكمن في توسيع قاعدة الإصلاحات الحقيقية والواقعية، وتفعيل الجباية، ودعم الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى تنمية القطاعات البديلة مثل الزراعة، الصناعة، الطاقة المتجددة، والخدمات اللوجستية. وإلا، فإن الاقتصاد العراقي سيظل هشاً معرضاً لأي صدمات نفطية مستقبلية تهدد الاستقرار والتنمية.
فيما يقول النائب السابق مضر الكروي، أن جداول موازنة 2025 باتت خارج قدرة الحكومة الحالية على الحسم بعد قرار المحكمة الاتحادية، مضيفا أن تأخر إرسالها من مطلع العام حتى نهايته، وتحول الحكومة إلى تصريف أعمال، جعل من غير الممكن قانونياً المضي في استكمالها.
ويضيف الكروي، أن الحسم سينتقل إلى الحكومة المقبلة، مشيراً إلى أن هذا التأخير ألحق أضراراً مباشرة بالوزارات والهيئات الحكومية والمشاريع الاستثمارية، وخلق صعوبات مالية عطلت العديد من الخطط. ويعزز هذا الواقع صورة الاضطراب المالي المتزامن مع تضخم الدَّين الداخلي وتعطل الحسابات الختامية والضبابية التي تحيط بموازنة 2026.
أزمة مالية متشابكة
أما الباحث الاقتصادي عبدالله نجم، فيعتقد أن العراق يواجه اليوم أزمة مالية متشابكة تتصدرها الحسابات الختامية المفقودة، إذ أدّى غيابها إلى توسّع الإنفاق خارج الرقابة وتراكم التزامات غير محسومة أثرت بشكل مباشر على الموازنات اللاحقة.
ويشير نجم في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى أن موازنة 2026 تُعد الأكثر تعقيداً، مع اعتماد سعر نفط يقدر بـ٦٠ دولاراً للبرميل، وتصدير 3.5 ملايين برميل يومياً، ما قد يحقق نحو 99 تريليون دينار. في المقابل، تصل النفقات المتوقعة إلى 150–160 تريليون دينار، ما يرفع العجز إلى حدود 50 تريليون، وقد ينخفض إلى 35 تريليونا في حال تغيير سعر الصرف إلى 1500 دينار للدولار. ويرى أن مواجهة هذا العجز تتطلب “قرارات صعبة”، منها زيادة الاستثمار، الاقتراض الخارجي، وترشيد الرواتب.
وينوه نجم إلى أن القرار الاتحادي بحل البرلمان وتحويل الحكومة إلى تصريف أعمال خلق ارتباكاً في لحظة مفصلية لإقرار الموازنة، في حين بررت وزارة المالية التأخير بتقلبات أسعار النفط والخلافات مع إقليم كردستان.
ويؤكد أن الأزمة أعمق من الأرقام، فالدَّين يشكل 37 في المائة من الناتج ويصل إلى 93 في المائة عند استبعاد النفط، بينما تملك الدولة أصولاً خاملة بقيمة 450 تريليون دينار، إضافة إلى ارتفاع كلفة رواتب وامتيازات الدرجات الخاصة.
وبرأي نجم، فإن تجاوز الأزمة يتطلب إصلاحاً جذرياً في إدارة الإنفاق وتفعيل الرقابة وتوسيع الإيرادات غير النفطية. أما بيان البنك المركزي بتثبيت سعر الصرف والحديث عن انخفاض قياسي في التضخم، فيراه خطوة لطمأنة السوق، لكنه يشدد على أن الاستقرار الحقيقي لن يتحقق دون إصلاح مالي شامل يسبق إقرار الموازنة الجديدة.
الوضع المالي تحت السيطرة
وكان المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، قال في تصريح سابق لـ"طريق الشعب"، إن الوضع المالي الخارجي للعراق “مطمئن للغاية”، موضحاً أن الديون المتبقية لا تتجاوز 9 مليارات دولار فقط، وتشمل ما تبقى من التزامات نادي باريس لعام 2004 وبعض الديون التجارية، والمتوقع إغلاقها بالكامل بحلول عام 2028.
وبين صالح أن هناك قروضاً أخرى من صناديق التنمية خُصصت لإعادة إعمار المناطق المحررة ومشاريع تنموية مختلفة، وستُسدد تدريجياً خلال السنوات العشر المقبلة، مؤكداً أن الموازنة الاتحادية تعتمد آليات واضحة لإدارة هذه الالتزامات، وهو ما أسهم في الحفاظ على التصنيف الائتماني للعراق عند مستوى (B) طوال العقد الماضي.
وأوضح أن الدين الخارجي لا يمثل سوى 7 إلى 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى يقل كثيراً عن السقف الدولي المسموح به والبالغ 60 في المائة، ما يعكس استقراراً في قدرة البلاد على السداد.
ولفت صالح إلى أن الأزمات التي مر بها العراق، خصوصاً منذ عام 2014، دفعت الحكومة إلى التوسع في الاقتراض الداخلي لتغطية النفقات الضرورية، ما رفع الدين المحلي إلى نحو 92 تريليون دينار. ومن هذا المبلغ، يحتفظ البنك المركزي بـ 47 في المائة ضمن محفظته الاستثمارية، وهو دين مغطى بالكامل بالسيولة والاحتياطيات الأجنبية.
وخلص صالح إلى أن إجمالي الدين العام، بشقيه الداخلي والخارجي، لا يزال ضمن الحدود الآمنة دولياً، إذ يتراوح بين 35 و40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مؤكداً أن هذا المستوى لا يشكل خطراً على الاستقرار المالي للبلاد.
نقاط ضعف "الاقتصاد العراقي"!
ويقول أستاذ الاقتصاد الدولي، نوار السعدي، أن الاقتصاد العراقي يواجه اليوم خليطاً معقداً من نقاط الضعف الهيكلية والسياسية والإدارية التي تجعل أي تحسن اقتصادي مؤقت هشاً وغير مستدام. العراق يمتلك ثروة نفطية ضخمة، لكنها لم تتحول بعد إلى قاعدة اقتصادية متنوّعة وقوية، ويعود ذلك ليس فقط لطبيعة الاعتماد على النفط، بل لكيفية إدارة الإيرادات وتخصيصها.
ويضيف السعدي، أن المؤسسة المالية العراقية لا تزال ضعيفة في خلق قاعدة ضريبية فعّالة، وفي تحويل الفوائض النفطية إلى احتياطيات أو استثمارات حقيقية، حيث غالباً ما تُستخدم هذه الموارد لتغطية النفقات الجارية كالرواتب والدعم، مما يجعل الاقتصاد عرضة لصدمات أسعار النفط ويضعف قدرة الدولة على تمويل مشروعات إنتاجية طويلة الأجل.
ويشير إلى أن البنية التحتية وقطاع الطاقة يمثلان عقبة كبيرة أمام النمو، فشبكات الكهرباء مهترئة واعتماد العراق على واردات الغاز والكهرباء يضع البلاد في موقف ضعيف أمام الضغوط الخارجية والسياسية. كما أن الهدر الناتج عن حرق الغاز المصاحب للإنتاج يشير إلى فقدان فرص تحويل موارد فعلية إلى طاقة ومنتجات مدرة للدخل، بدلاً من إخراجها كخسارة بيئية واقتصادية، ما يقلل من القدرة التنافسية ويضعف جاذبية الاستثمار الحقيقي.
ويشير إلى أن عوامل الحوكمة والفساد والجمود المؤسسي تشكل تحدياً إضافياً، حيث تخضع آليات الإنفاق العام والتعيينات والسياسات المالية غالباً لمنطق سياسي قصير الأمد بدلاً من التخطيط الاستراتيجي، مما يفسر جزئياً لماذا البرامج الحكومية الواسعة لا تتحول إلى تحولات اقتصادية ملموسة. كلما زادت الموارد دون إصلاحات مؤسسية، تزداد احتمالات الاستهلاك السياسي للفائض بدلاً من تحويله إلى رأس مال منتج.
وعن الخطط الاستراتيجية الحكومية، يرى السعدي أنها تحمل مؤشرات إيجابية من خلال مشاريع البنية التحتية والطاقة المتجددة والاتفاقات مع شركات عالمية لتطوير الغاز المحلي، لكنها تواجه تحديات التنفيذ، فالكثير منها لا يزال على الورق أو يمتد بمهل زمنية طويلة ويحتاج إلى تمويل مستدام وإطار مؤسسي قوي للمتابعة. ويؤكد أن نجاح هذه الخطط يعتمد على شرطين أساسيين: الالتزام بالإصلاحات الضريبية والجمركية، وبناء صندوق سيادي يحول جزءاً ثابتاً من الفوائض إلى احتياطيات واستثمارات بعيدة الأجل.
ويتابع السعدي بالقول إن الطريق للخروج من هذا المأزق الاقتصادي لا يمر عبر البرامج الرمزية، بل من خلال إجراءات متكاملة تبدأ فوراً، تشمل تحويل جزء ثابت من إيرادات النفط إلى صندوق سيادي للاستثمار، إصلاح النظام الضريبي وتوسيع القاعدة الضريبية، وقف هدر الغاز واستثماره بعقود شفافة مع شركات كبرى، وإعادة هيكلة الإنفاق العام، خاصة كتلة الأجور، لتصبح مستدامة. هذه الإجراءات يمكن أن تحول التحركات الاستراتيجية الحالية من وعود إلى قدرة فعلية على خلق نمو منتج ومستدام ينعكس في انخفاض حقيقي لأسعار السلع وتحسن ملموس في مؤشرات المعيشة.