اخر الاخبار

تُعدّ إشكالية العلاقة بين الخبرة الزراعية العملية وكثرة حملة الشهادات العليا معضلة حقيقية ومركبة تواجه القطاع الزراعي في العراق، وتؤثر بشكل مباشر في مسارات تنميته واستدامته. فبين وفرة أكاديمية متنامية ونقص واضح في الخبرة الميدانية، تتسع الفجوة التي تنعكس سلباً على الأداء والإنتاجية.

يمكن تحليل هذه الإشكالية عبر المحاور الآتية:

أولاً: تحدي نقص الخبرة العملية مقابل الوفرة الأكاديمية.. نقص الخبرة الزراعية الميدانية

يشهد القطاع الزراعي تراجعاً واضحاً في أعداد الأيدي العاملة ذات الخلفية الزراعية والخبرة الميدانية، إذ تحولت فئة منهم إلى قطاعات أخرى توفر مردوداً مادياً أعلى أو استقراراً وظيفياً أفضل، فيما هاجر آخرون الريف. كما أن الخبرة العملية المتراكمة عبر الأجيال والممارسة المباشرة في الحقل، مثل معرفة خصائص التربة، وطرائق الري التقليدية الفعالة، والتعامل المباشر مع الآفات، لا تُوثَّق ولا تُنقَل بشكل كافٍ إلى الأجيال الجديدة.

تضخم الشهادات العليا (ظاهرة “البرستيج العلمي”)

في المقابل، شهد العراق تزايداً ملحوظاً في أعداد حملة الشهادات العليا (الماجستير والدكتوراه) في التخصصات الزراعية وغيرها، غير أن هذا التضخم لا يترجم بالضرورة إلى قيمة مضافة حقيقية داخل القطاع، لعدة أسباب، أبرزها:

1. الفجوة بين النظرية والتطبيق: كثير من البحوث والدراسات العليا تتسم بالطابع النظري البحت، وتفتقر إلى الارتباط بالواقع الزراعي العراقي المعقّد، ولا تعالج التحديات الفعلية التي يواجهها المزارع، مثل شح المياه، وارتفاع نسب الملوحة، والإغراق السلعي.

2. الدافع المادي والوظيفي: يتجه عدد غير قليل إلى نيل الشهادة العليا بدافع تحسين الراتب أو تحقيق وجاهة اجتماعية أو الحصول على وظيفة حكومية، وليس بدافع البحث العلمي التطبيقي وتطوير الزراعة.

3. مشكلات الرصانة العلمية: تبرز في بعض الحالات مؤشرات على ضعف جودة ومصداقية بعض الشهادات العليا، ما يقلل من القيمة المعرفية الحقيقية لحاملها.

ثانياً: المعوقات التنموية الناتجة عن الإشكالية

تتسبب هذه الفجوة بين المعرفة النظرية والخبرة العملية في إضعاف أداء القطاع الزراعي، ويتجلى ذلك في عدة مظاهر، من بينها:

1. ضعف نقل التكنولوجيا: يفتقر عدد من حملة الشهادات العليا إلى الخبرة اللازمة لتطبيق التقنيات الحديثة، مثل الري بالتنقيط أو المكننة الزراعية، على نطاق واسع وبكلف تتناسب مع إمكانات المزارع العراقي.

2. هدر الموارد: يؤدي نقص الخبرة العملية إلى استمرار استخدام أساليب ري قديمة تهدر كميات كبيرة من المياه، إضافة إلى ضعف كفاءة استخدام الأسمدة والبذور ووسائل مكافحة الأمراض والآفات الزراعية، على الرغم من توفر أبحاث علمية تسعى إلى تحسين هذه الجوانب.

3. قصور الإرشاد الزراعي الفعال: يتطلب الإرشاد الزراعي الناجح مزيجاً من المعرفة العلمية الحديثة والقدرة على التواصل مع المزارع بلغة عملية وميدانية، وهو ما يغيب في كثير من الأحيان لدى الخريجين غير المدربين عملياً.

4. تدهور الإنتاجية: يسهم ضعف استخدام المدخلات المتطورة وتدني المستوى التكنولوجي في بقاء معدلات الإنتاجية الزراعية أقل بكثير من مثيلاتها في الدول المتقدمة.

ثالثاً: الحلول المقترحة  لسد الفجوة

لتحقيق تنمية زراعية مستدامة، يصبح من الضروري دمج العلم بالخبرة، عبر جملة من الإجراءات، أبرزها:

1. ربط المناهج بالواقع: إلزام طلبة كليات الزراعة بفترات تدريب عملي طويلة ومكثفة داخل المزارع الحقيقية ومشاريع القطاع الخاص، وربط التخرج أو القبول في الدراسات العليا بامتلاك خبرة ميدانية فعلية. كما ينبغي توجيه البحوث والدراسات العليا لمعالجة مشكلات زراعية وطنية ذات أولوية، مثل استنباط محاصيل مقاومة للجفاف والملوحة.

2. تفعيل دور الإرشاد الزراعي: إنشاء برامج تدريب متخصصة لحملة الشهادات العليا، تؤهلهم ليكونوا مرشدين زراعيين عمليين قادرين على نقل المعرفة الحديثة بأساليب مقنعة وقابلة للتطبيق، مع الاستفادة من المزارعين ذوي الخبرة بوصفهم مستشارين ومدربين ضمن البرامج الحكومية والجامعية.

3. دعم القطاع الخاص: تشجيع الاستثمار الخاص في مجالات الزراعة المختلفة، كالمكننة والصناعات الزراعية والبنى التحتية، بما يخلق فرص عمل حقيقية تتطلب مزيجاً متوازناً من المعرفة الأكاديمية والخبرة التقنية.

4. تحسين البنية التحتية: الاستثمار في تحديث شبكات الري واعتماد التقنيات الحديثة، مثل الري بالرش والتنقيط، التي تستلزم كوادر مدربة تمتلك معرفة علمية وخبرة عملية في آن واحد.

إن التنمية الزراعية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق من دون شراكة فاعلة بين “العقل المفكّر” المتمثل بحملة الشهادات والبحوث العلمية، و“اليد العاملة الخبيرة” التي يمثلها المزارع والتقني الميداني.

ــــــــــــــــــ

*مهندس زراعي