اخر الاخبار

استيقظ سكان العاصمة صباح اليومين الاخيرين على مشهد غير مألوف؛ غيمة رصاصية كثيفة غطّت السماء وحجبت الرؤية، تبعتها رائحة خانقة ظنّ معها كثيرون أنها موجة غبار جديدة، قبل أن يتبيّن أنها رائحة كبريت محترق ناتجة عن مصادر تلوث متكررة.

صعوبة التنفس

ومع تزايد الشكاوى وصعوبة التنفس في عدد من المناطق، خرجت وزارة البيئة ـ بعد صمتٍ طال ـ ببيان حذّرت فيه من أي تراخٍ لدى الجهات التنفيذية في مواجهة الأنشطة الصناعية التي تستغل ساعات الليل لتنفيذ عمليات حرق غير قانونية في أطراف بغداد، مؤكدة أنها ضاعفت جهودها الرقابية منذ فجر اليوم لملاحقة مسبّبات التلوث والانبعاثات الدخانية التي تكررت بشكل لافت خلال الأيام الأخيرة.

ودعت الوزارة في بيان اطلعت عليه "طريق الشعب"، كلا من وزارة النفط، وأمانة بغداد، ومحافظة بغداد، واتحاد الصناعات، وجميع الجهات المعنية، إلى الإسراع بتنفيذ البرامج الموضوعة لتغيير منظومات الحرق في المعامل الصغيرة والمتوسطة، والاستفادة من برامج القروض التي يجري العمل عليها بالتنسيق مع البنك المركزي العراقي، بهدف الوصول إلى معالجة جذرية لهذه الظاهرة المتكررة.

وأشارت إلى أن فرقها تواصل الرصد الميداني على مدار الساعة، بالتزامن مع استقبال شكاوى المواطنين عبر قنوات متعددة خصصتها الوزارة لهذا الغرض، إلى جانب الاستعانة ببيانات الأقمار الصناعية التي كشفت عن عدة بؤر حرق في أطراف بغداد ومحيطها، من بينها الحرائق المسجلة في منطقة معسكر الرشيد. وعلى إثر ذلك، وجّهت الوزارة فرقها لاتخاذ الإجراءات القانونية والقضائية بحق المخالفين.

وبين البيان أن الوزارة تواصل تنسيقها المباشر مع قيادة عمليات بغداد لضبط المتورطين بأعمال الحرق العشوائي، مؤكداً أن الحملات الأخيرة أسفرت عن إزالة وإيقاف مئات المواقع المخالفة، شملت كور الصهر ومعامل الطابوق والأسفلت، فضلاً عن متابعة المولدات ومراقبة استخدام الوقود الرديء.

وفيما بررت الوزارة الرائحة بالظروف الجوية الحالية، خصوصاً ظاهرة الانعكاس الحراري، التي أسهمت في احتجاز الملوثات قرب سطح الأرض وزيادة تأثيرها على جودة الهواء، أكدت أن أي تقصير في ضبط الأنشطة المسببة للتلوث من شأنه أن يُفاقم المشكلة ويزيد من آثارها الصحية على السكان.

وكشف المتحدث باسم وزارة البيئة، لؤي المختار، عن أسباب التلوث الكبير الذي تشهده أجواء العاصمة بغداد.

وقال المختار في حديث لـ"طريق الشعب"، إن "نوعية الهواء في بغداد هذا اليوم سيئة جداً"، مبيناً أن الوزارة تواصل منذ ثلاثة أيام ملاحقة ومراقبة المخالفين من أصحاب المعامل والمتسببين بحرق النفايات، مؤكداً اتخاذ إجراءات قانونية بالتعاون مع وزارة الداخلية وقيادة عمليات بغداد.

وأضاف أن "التلوث الحالي يعكس واقع حال مدينة بغداد التي تضم أنشطة متعددة مسببة للتلوث"، مشيراً إلى أن الظاهرة تفاقمت بسبب "الانقلاب الحراري الناتج عن تغير الأجواء من الحارة إلى الباردة، واختلاف درجات الحرارة بين النهار والمساء، ما يؤدي إلى تشكّل طبقة هوائية تحبس الانبعاثات".

وأشار المختار الى انحسار التلوث صباحا مع احتمالية عودته مساءً "ما لم تتغيّر سرعة الرياح".

أسباب الرائحة!

وقال الخبير البيئي أنعم ثابت، إن الروائح التي انتشرت في بغداد خلال اليومين الماضيين تعود إلى مجموعة من الأسباب المتراكبة، في مقدمتها عمليات الحرق العشوائي للنفايات في المكب القريب من معسكر الرشيد سابق.

وأضاف ثابت أن هذه المشكلة تفاقمت نتيجة استمرار الانبعاثات الصادرة عن محطات إنتاج الطاقة الكهربائية ومصفى الدورة وعدد من المعامل الواقعة جنوب وجنوب شرق العاصمة.

وتابع ثابت في حديث لـ "طريق الشعب"، أن الظروف الجوية لعبت دورا حاسما في زيادة تركز الروائح، إذ شهدت المنطقة انخفاضا ملحوظا في درجات الحرارة ترافق مع منخفض جوي، إضافة إلى تغير اتجاه الرياح التي عادة ما تكون شمالية غربية، لكنها خلال الفترة الأخيرة تحولت إلى جنوبية شرقية وشرقية. هذا التغير دفع الملوثات والغازات الثقيلة مثل أكاسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين والغبار الناتج عن الحرق نحو مركز بغداد ومحيطها، ما جعل السكان يشعرون بالروائح بوضوح.

وأشار إلى أن وزارة البيئة قامت بدورها التحذيري المعتاد، لافتًا إلى أن مسؤولية الإيقاف الفعلي للحرق العشوائي تقع على القوات الأمنية والجهات التي تسيطر على الأراضي التي تضم المكبات، داعيًا إياها إلى فرض الرقابة ومنع تكرار مثل هذه الممارسات.

الالتزام بالضوابط

كما وجه ثابت عتبا للجهات القطاعية المرتبطة بعمليات الانبعاث ومنها وزارات الكهرباء والنفط والمعامل الحكومية والأهلية، مطالباً بتشديد الالتزام بالضوابط البيئية ووقف إطلاق الملوثات بشكل عشوائي.

وأكد أن الوضع الحالي يتطلب تدخلا حكوميا مباشرا من الأمانة العامة لمجلس الوزراء ورئيس الوزراء ووزارات الداخلية والدفاع والكهرباء والنفط، مشددًا على أن استمرار هذه الظروف قد يفاقم ما يُعرف بظاهرة الانعكاس الحراري، وهي من أخطر حالات التلوث الجوي لأنها تتسبب بارتداد الملوثات نحو سطح الأرض بدل تشتتها في الجو.

وتابع بالقول إن اجتماع هذه العوامل من الحرق العشوائي فضلا عن تغير اتجاه الرياح وانخفاض درجات الحرارة أدى إلى تشكّل طبقة من الغازات الثقيلة فوق العاصمة، ما جعل روائح التلوث أكثر حدة وتأثيرًا على سكان بغداد.

الحلول الحكومية لا تناسب المشكلة

وانتقد الناشط البيئي مرتضى الجنوبي تعامل الجهات الرسمية مع الأزمات البيئية المتكررة في البلاد، معتبرا أن معالجاتها وحلولها "لا ترتقي إلى مستوى حجم الكارثة"، وأنها تأتي غالباً "بصيغة مبسطة تتناسب مع فهم أطفال الروضة"، على حد تعبيره.

وقال الجنوبي إن وزارة البيئة تكتفي بتوصيف الظواهر الضبابية التي تشهدها بغداد والمحافظات بأنها "ظاهرة سنوية"، متجاهلة بحسب قوله الأسباب الفعلية المتمثلة في توسع المصانع ومعامل الطابوق، وانبعاثات مصفى الدورة، وحرق النفايات، والمولدات الأهلية، إضافة إلى التصحر وعوادم السيارات والمياه الثقيلة التي تُصرف دون معالجة.

وأضاف أن بدلاً من اتخاذ إجراءات للحد من الملوثات المتزايدة، فإن حجمها "تضاعف بشكل كبير"، وهو أمر واضح للشارع وللناشطين البيئيين، باستثناء المقربين من السلطة الذين ينشغلون بتجميل الواقع، على حد وصفه.

وأوضح الجنوبي أنه لا يتحدث عن بغداد وحدها، بل عن جميع محافظات العراق التي تعاني حسب قوله من "الإهمال المتعمد"، للملف البيئي.

وأشار إلى أن الحكومات المتعاقبة خلال العشرين عامًا الماضية لم تُنجز مشاريع حقيقية لإعادة تدوير النفايات أو معالجة المياه الثقيلة، ما جعل "البيئة مهمَلة تمامًا، شأنها شأن ملف المياه".

غيمة التلوث

مرصد العراق الأخضر ذكر في بيان له اسباب تكرار حصول "غيمة التلوث" التي ضربت العاصمة بغداد خلال هذا الاسبوع.

واكد ان "التلوث الذي حصل الثلاثاء كان الأوسع على نطاق الانتشار والأكثر تلوثاً خلال عام كامل لوجود مركبات غالبها سامة، نتيجة عمليات حرق النفايات والتي لم يوضع أي حد لها لغاية الآن، ناهيك عن باقي الغازات كثنائي أوكسيد الكبريت ما تسبب بحصول حالات اختناق لدى المواطنين نقلوا على أثرها إلى المستشفيات وزيادة التحسس".

ويتوقع المرصد أن "تشهد الأعوام المقبلة إعلان عطلة رسمية في أي يوم يشهد مثل هذا التلوث في حال بقاء الحال على ما هو عليه دون معالجة والاكتفاء بنصح المواطنين بضرورة البقاء في أماكنهم وإغلاق النوافذ وتجنب الخروج للأماكن العامة والمفتوحة، كما اعتادت عليه الجهات الرسمية".

وأشار إلى غياب جميع الحلول التي وضعتها الجهات المختصة من أجل تقليل التلوث في مدينة بغداد رغم الإعلان عن إغلاق الكثير من معامل الطابوق والآلاف من الأنشطة المخالفة للمحددات البيئية، فضلاً عن قلة الغطاء الأخضر وتحول العاصمة إلى مدينة كونكريتية بامتياز.

أجهزة الرصد أشرت خطرا كبيرا

وكشف الباحث البيئي سيف مسلم، في حديث لـ"طريق الشعب"، عن خطورة الوضع البيئي في العاصمة بغداد بعد انتهاء موجة رائحة الكبريت التي اجتاحت المدينة، موضحاً أن أجهزة الرصد سجلت مؤخرا تركيز جسيمات دقيقة بلغ 290 ميكروغرام/م³، وهو مستوى يُصنّف الهواء بأنه "غير صحي للغاية.

 وأضاف مسلم أن هذا الرقم يعادل نحو 11–12 ضعفا  للحد المسموح به يومياً وفق إرشادات منظمة الصحة العالمية لعام 2021، التي حددت متوسط 24 ساعة آمن بـ15 ميكروغرام/م³ فقط، مؤكداً أن الهواء بهذه الحالة يُشكل خطراً على الصحة العامة.

وأوضح مسلم أن القراءة تقع ضمن فئة "غير صحي جداً" وقريبة من مستوى "خطر"، مشيراً إلى أن التعرض القصير لهذه المستويات قد يؤدي إلى تفاقم الحالات التنفسية والقلبية عند الفئات الحساسة، بما في ذلك الأطفال وكبار السن.

تلوث حاد وخطر

وبين إن أكثر الفئات تضرراً من مستويات التلوث الحالية هم الأطفال وكبار السن ومرضى القلب والربو والضغط والسكري، موضحاً أن هذه المجموعات "تُعد الأكثر هشاشة أمام تركيزات PM2.5 التي وصلت مؤخرا إلى نحو 290، سواء كانت قيمة مباشرة للجسيمات الدقيقة أو ضمن مؤشر جودة الهواء AQI".

واكد مسلم لـ"طريق الشعب"، أن هذا المستوى من التلوث "يمثل 11 إلى 12 ضعفا للحد المسموح به من قبل منظمة الصحة العالمية خلال 24 ساعة، ما يجعله ضمن فئة التلوث الحاد والخطر على الصحة العامة". ويشير إلى أن الأطفال تحديداً يُظهرون أعراضاً أسرع، مثل التهابات الجهاز التنفسي ونوبات الربو، فيما ترتفع لدى كبار السن احتمالات الجلطات وتراجع وظائف القلب.

وبخصوص مرضى الأمراض المزمنة، ذكر مسلم أن التعرّض القصير لمثل هذه المستويات "يكفي لتفاقم حالات الربو، وارتفاع الضغط، وظهور نوبات قلبية أو تنفسية حادة"، مؤكداً أن الدراسات الحديثة تربط بين ارتفاع PM2.5 وبين الولادات المبكرة وانخفاض وزن المواليد.

وأضاف أن الفقراء وسكان المناطق الطرفية "هم الأكثر تعرضاً لهذه الملوثات بسبب قربهم من الطرق السريعة، معامل الطابوق، محارق النفايات، ومصانع الإسفلت”، مشيراً إلى أن هؤلاء "يدفعون الثمن الأكبر رغم أنهم الأقل قدرة على حماية أنفسهم".

أما عن مصادر هذا التلوث، فقد اوضح مسلم أنها "واضحة ولا يمكن اختزالها بالطقس أو العواصف الترابية فقط"، مبيناً أن مصانع النفط ومصافي التكرير وحرق الغاز ومداخن محطات الكهرباء العاملة بالوقود الثقيل تشكل جزءاً كبيراً من المشكلة، إضافة إلى معامل الطابوق والإسفلت التي تستخدم وقوداً رديئاً أو نفايات وتشغّل أفرانها في ساعات متأخرة ضمن ما يسميه بـ اقتصاد التلوث الليلي. كما أكد أن المولدات الأهلية "تنتج تلوثاً لكل ميغاواط أعلى بعشرات المرات من المحطات الحديثة".

ويتابع مسلم حديثه قائلاً: "دور الإعلام البيئي لا يقتصر على إبلاغ الناس بأن الهواء ملوث، بل أن يذهب إلى سؤالين أساسيين: من يدفع الثمن؟ ومن يستفيد من استمرار هذا التلوث؟ وعندها فقط يتحول الإعلام من ناقل خبر إلى قوةٍ قادرة على تغيير السياسات".