تشهد خيارات الطلبة من أصحاب المعدلات المرتفعة تحوّلاً لافتاً خلال السنوات الأخيرة، إذ لم يعد التوجه نحو التخصصات الطبية هو المسار التقليدي الذي يستقطب أغلبهم، في ظل تحديات القطاع الصحي وضعف قدرته على استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين. وفي المقابل، برزت الأقسام التقنية، ولا سيما الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي كخيار جذاب يجذب العديد من الطلبة الباحثين عن فرص عمل حديثة واستقرار مهني ونمو مهاراتي.
لغة المستقبل
يقول الطالب احمد ادور الحاصل على معدل ٩١ في الامتحانات الوزارية، إنه اختار تخصص الأمن السيبراني عن قناعة كاملة، رغم إمكانية دخوله أحد الأقسام الطبية، موضحاً أن قراره جاء بعد مقارنته بين واقع القطاع الصحي الحالي ومتطلبات التخصصات التقنية الحديثة.
وبين احمد في حديثه لـ"طريق الشعب" أن “الكثير من المشاكل التي يواجهها خريجو التخصصات الطبية اليوم، خصوصاً محدودية التعيين وضعف القدرة الاستيعابية للمستشفيات، جعلته يعيد التفكير بجدية"، مضيفاً أنه لا يريد "أن يقضي سنوات طويلة بانتظار فرصة عمل أصبحت غير مضمونة".
وأوضح أن توجهه نحو الأمن السيبراني جاء لأنه يمثل “لغة المستقبل”، ولأن هذا المجال يوفر فرص عمل واسعة داخل العراق وخارجه، إضافة إلى إمكانية التطور المهني السريع والعمل في بيئات حديثة تعتمد على المهارات وليس التعيين المركزي.
وأشار إلى أن العديد من زملائه من أصحاب المعدلات المرتفعة بدأوا يسلكون الاتجاه نفسه، "لأن التخصصات التقنية تمنحهم استقراراً وظيفياً ودخلاً أفضل سواء في القطاع العام او الخاص، بما لا توفره التخصصات التقليدية في ظل الظروف الحالية". مشيراً الى ان هذه الأقسام بدت تثير فضول الشباب للدخول فيها وتعلم تقنياتها.
غياب التخطيط!
وذكر نقيب الأطباء في محافظة صلاح الدين، ياسر مثنى، أن الواقع الذي يشهده القطاع الصحي اليوم هو نتيجة مباشرة لغياب التخطيط الحقيقي في وزارتي الصحة والتعليم، مشيرا إلى أن التوسع في القبولات الجامعية تمّ دون رؤية واضحة، وأن إنشاء العديد من الكليات الأهلية جرى بلا معايير علمية أو دراسة دقيقة للاحتياج الفعلي.
وقال مثنى لـ"طريق الشعب"، إن القرارات المتعلقة بالقبولات كانت تُتخذ بطريقة ارتجالية بعيدة عن الأرقام والبيانات، ما أدى إلى اتساع الفجوة بين أعداد خريجي كليات الطب والقدرة الاستيعابية للمؤسسات الصحية. وقال إن "الدولة تحتاج فعلاً إلى أطباء، لكنها لم تُطوّر البُنى التحتية للمستشفيات ولم ترفع طاقة استيعابها، الأمر الذي جعلها عاجزة عن استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من الخريجين".
وأضاف النقيب أن استمرار التوسع غير المدروس في القبولات، بالإضافة إلى نمو الكليات الأهلية بلا ربط حقيقي بمستشفيات تعليمية، أدى إلى تعميق المشكلة. وشدد على ضرورة "إعادة تنظيم القبولات بناءً على الحاجة الفعلية، وضبط التوسع العشوائي"، محذرا من أن المشكلة ستتكرر سنوي ما لم يتم إصلاح هذا الخلل الجوهري.
وأشار إلى أن الطلبة أصحاب المعدلات المرتفعة باتوا يتجهون بصورة متزايدة نحو تخصصات الذكاء الاصطناعي، نظرا لكونها "لغة المستقبل" وما توفره من فرص عمل سريعة ودخل أفضل ومسار مهني عالمي لا يعتمد على التعيين الحكومي.
واختتم مثنى أن الطالب اليوم يبحث عن بيئة عمل حديثة واستقرار وفرص نمو مهني، وهي عناصر يجدها بحسب قوله في مجالات الذكاء الاصطناعي أكثر من التخصصات التقليدية.
اهتمامات الجيل تغيرت!
في السياق، يقول د. حيدر ناصر، الأستاذ الجامعي المتخصص في الأقسام التكنولوجية، إن التحول المتزايد للطلبة من أصحاب المعدلات العالية نحو التخصصات التقنية يمثل مؤشراً واضحاً على تغير أولويات الجيل الجديد، ليس بدافع الهروب من التخصصات الطبية، بل نتيجة قراءة واقعية لمتطلبات المستقبل.
ويضيف ناصر في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن "العالم يتجه بسرعة نحو الاقتصاد الرقمي، والوظائف الأكثر طلباً لم تعد مرتبطة بالمهن التقليدية، بل بالمهارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتحليل البيانات، وتطوير الأنظمة الذكية"، مشيرا إلى أن الطلبة باتوا "أكثر وعياً ودراية بالفرص الحقيقية التي توفرها هذه المجالات، خاصة مع توسع منصات التدريب العالمية ومجالات العمل المفتوحة التي لا ترتبط بحدود جغرافية أو بتعيين حكومي".
ويوضح أن هذه التخصصات تتطلب أن يكون الطالب محباً للجانب التحقيقي ويمتلك فضولاً عالياً وقدرة على التحليل وحماية الشبكات، بينما يتناسب برنامج تكنولوجيا معلومات الأعمال (BIT) مع الطلبة الذين يهتمون بالقطاع الإداري ويرغبون في الدمج بين المهارات التقنية وإدارة الأعمال.
ويعتقد أن التحديات التي تواجه القطاع الطبي، سواء في محدودية التدريب أو ضعف البنى التحتية للمستشفيات، أصبحت عاملاً مؤثراً في قرار الطلبة، مبيناً أن "الكثير من الخريجين في القطاع الطبي ينتظرون لسنوات فرص عمل، بينما يستطيع خريج التخصصات التقنية البدء بمساره المهني مبكراً، وبفرص دخل أعلى واستقرار أكبر".
ويشدد ناصر على أن الجامعات العراقية بحاجة إلى إعادة النظر في برامجها، قائلاً إن "التوسع السريع في الكليات الأهلية الطبية لم يقابله تطوير مماثل في المستشفيات التعليمية، في حين أن التخصصات التقنية تمتلك مرونة أكبر في التعليم والتطبيق، ويمكن ربطها مباشرة بسوق العمل من خلال الشراكات والتدريب العملي".
ويؤكد أن مستقبل التعليم في العراق "لن يكون فعالاً من دون التخطيط الدقيق للحاجة الفعلية في السوق"، داعياً إلى "اعتماد رؤية واضحة تقوم على دعم التخصصات التكنولوجية، وتحديث المناهج، وتعزيز المهارات الرقمية، لأنها ستشكّل العمود الفقري للوظائف خلال السنوات المقبلة".
ويشير الى ان الجامعة التقنية الوسطى أعلنت عن استحداث تخصصات حديثة في مجال الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وهي خطوة عدّها ناصر "مهمة في مجال التعليم".
ويخلص الى القول إن "المعادلة باتت واضحة للجيل الجديد التخصصات التقنية لم تعد مجرد بديل، بل خياراً استراتيجياً لمن يبحث عن مسار مهني مستدام وفرص عالمية".