اخر الاخبار

تواجه الصناعة المحلية واحدة من أكثر مراحلها تعقيداً منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، فبعد أن كانت المصانع والمعامل في مختلف المحافظات تشكل رافداً رئيسياً للناتج المحلي وتوفّر مئات الآلاف من فرص العمل، أصبحت معظمها اليوم خارج الخدمة أو تعمل بطاقة متدنية، نتيجة تراكم السياسات الخاطئة، وغياب التخطيط الاستراتيجي، وتزايد الاعتماد على الاستيراد بوصفه الحلّ السهل لتلبية حاجات السوق.

ومع استمرار التدهور، باتت الصناعة الوطنية والعديد من المهن مهددة بالاندثار الكامل إن لم تُتخذ خطوات جادة لإعادة هيكلتها وفق رؤية اقتصادية واقعية، تقوم على الإنتاج المحلي المستدام، وتنويع مصادر الدخل الوطني بعيدًا عن النفط.

سياسات حكومية لمصلحة المتنفذين

في هذا الصدد، أكد الأمين العام لاتحاد نقابات عمال العراق عدنان الصفار: أن القطاعين العام والخاص يواجهان تحديات خطيرة نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة وغير المبرمجة التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة وحتى الحالية، مشيراً إلى أن غياب الرؤية الواضحة لبناء اقتصاد وطني متين أدى إلى تدهور الصناعة الوطنية وتراجع دور الشركات العامة والخاصة على حد سواء.

وقال الصفار لـ"طريق الشعب"، إن وزارة الصناعة كانت تضم 74 شركة منتجة إضافةً إلى شركات عامة أخرى تابعة لإحدى عشرة وزارة، لكنها اليوم تعاني الإهمال والتفكيك وسوء الإدارة، فيما لم تحقق مشاريع الاستثمار نتائج إيجابية حقيقية.

وأضاف أن “هذه السياسات جعلت الشركات الوطنية في وضع لا تحسد عليه، وأدت إلى تسريح قسري للعاملين تحت غطاء التقاعد المبكر، ما تسبب بخسارة كوادر تملك خبرات كبيرة، كانت تمثل العمود الفقري للصناعة العراقية”.

وبيّن أن القطاع الخاص بدوره "يعاني من مشكلات كبيرة، أبرزها انقطاع الكهرباء، وندرة المواد الأولية، وغياب الحماية أمام الاستيراد العشوائي الذي أغرق السوق المحلي بسلع ضعيفة الجودة، ما جعل المنتج الوطني عاجزًا عن المنافسة في ظل ما يُسمى باقتصاد السوق".

وأشار إلى أن "أصول الشركات العامة من أراضٍ ومكائن ومعدات أصبحت مهددة بالبيع عبر المزادات العلنية"، محذراً من أن هذه الممتلكات “هي أموال عامة تمثل ثروة الشعب، ولا يجوز التصرف بها بهذه الطريقة التي تضر بالاقتصاد الوطني وتمنع أي إمكانية حقيقية لإحياء الصناعة العراقية”.

وختم بالقول إن السياسات الحكومية الحالية تصب في مصلحة رجال الأعمال والمستثمرين والمتنفذين وأحزاب السلطة، وأن ما يُسمّى بفرص الاستثمار تحوّل في أغلب الأحيان إلى بوابات للفساد وغسل الأموال، عبر مشاريع تمنح لأشخاص مرتبطين بمراكز النفوذ وأبناء المسؤولين، ما جعل الشركات الوطنية تفقد دورها الأساسي في خدمة الاقتصاد الوطني.

قطاع استهلاكي معطّل

من جهته، قال الخبير الاقتصادي صالح الهمّاشي أن العراق يعيش أزمة صناعية مركّبة نتيجة غياب السياسات الإنتاجية طويلة الأمد، وتحول القطاع الصناعي إلى قطاع استهلاكي شبه معطل يعتمد على الاستيراد بدل التصنيع المحلي.

وأضاف الهمّاشي لـ"طريق الشعب"، أن “الانهيار الصناعي الذي شهده العراق بعد عام 2003 لم يكن نتيجة الحرب أو التقادم الفني فحسب، وإنما بسبب تفكك المنظومة الاقتصادية الإنتاجية وغياب الحماية التشريعية للمصانع والشركات الوطنية”، مبيناً أن “الاعتماد المفرط على الإيرادات النفطية جعل الدولة تتخلى تدريجياً عن الاستثمار في الصناعة التحويلية، ما أضعف القدرة التنافسية للمنتج المحلي وأفقد السوق توازنه”.

وأشار إلى أن “نحو 70% من المعامل القائمة تعمل حالياً بأقل من 20% من طاقتها التصميمية، في حين توقفت المئات ان لم يكن الالاف منها كلياً بسبب شح الطاقة، وغياب التمويل، وتزايد كلفة التشغيل مقارنة بضعف الطلب المحلي”.

وأضاف الهمّاشي أن “إعادة بناء الصناعة العراقية تتطلب رؤية وطنية علمية تستند إلى دراسات جدوى حقيقية، وإصلاح المنظومة الضريبية والكمركية، وتحفيز الاستثمار الصناعي عبر شراكات ذكية بين القطاعين العام والخاص”، مشددًا على أن “تحريك عجلة الصناعة سيعيد التوازن إلى سوق العمل، ويرفع الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بنسبة لا تقل عن 5% خلال السنوات الثلاث الأولى من التطبيق الفعلي”.

وختم بالقول إن “المعادلة الاقتصادية في العراق لن تستقيم ما لم يُعَد النظر في مفهوم الأمن الاقتصادي بوصفه ركيزة للأمن الوطني، فالصناعة هي أداة سيادية لحماية الموارد وتوليد القيمة المضافة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي”.

مجزرة اقتصادية

الى ذلك، أكد عضو مجلس النواب السابق عبد الخالق العزاوي أن الصناعة العراقية تعرّضت بعد عام 2003 لما وصفها بـ “مجزرة اقتصادية”، مشيرًا إلى أن نحو 80% من خطوط الإنتاج والمصانع تحولت إلى خردة، ما أدى إلى تراجع حاد في الإنتاج المحلي وتسريح عشرات الآلاف من العمال.

وقال العزاوي في حديث صحفي ان “المعامل والمصانع العراقية، ولا سيما في القطاع الخاص، كانت قبل عام 2003 تنتج ما بين 200 إلى 250 سلعة، وتوفّر فرص عمل لنحو نصف مليون عامل في القطاعات الصناعية والغذائية والإنشائية”، مبينًا أن “انهيار هذه المنظومة الإنتاجية بعد التغيير السياسي شكّل ضربة قاسية للاقتصاد الوطني”.

وأضاف أن “قرابة 80% من المصانع تحولت إلى خردة نتيجة الإهمال وغياب الدعم وتزايد الاعتماد على الاستيراد، ما أدى إلى تسريح آلاف العاملين وانهيار شبه كامل للإنتاج المحلي”، متسائلًا: “كم تبلغ نسبة الإنتاج الوطني الحقيقي في الأسواق اليوم مقارنة بالمستورد؟”.

وشدّد العزاوي على أن “إحياء المصانع العراقية يمثل ركيزة أساسية لأي نهضة اقتصادية، إذ يمكن أن يوفّر خلال سنوات قليلة ما بين 600 إلى 700 ألف فرصة عمل، ما يساهم في تقليل نسب البطالة والفقر وتعزيز قدرة الدولة على التوظيف”، محذرًا من أن “غياب خطة وطنية شاملة لإعادة تأهيل القطاع الصناعي سيبقي الاقتصاد العراقي رهينة للمنتج الأجنبي ومعرّضًا لأزمات متكررة".