اخر الاخبار

مع تضارب مواقف القوى السياسية وتعدد مراكز القرار، تحولت الدبلوماسية العراقية إلى ساحة لتجاذبات داخلية ومصالح حزبية، بينما تراجع الدور الإقليمي لبغداد؛ إذ يرى مراقبون أن غياب التوافق الداخلي وتشتت الخطاب الرسمي أفقد العراق القدرة على بناء سياسة خارجية فاعلة قائمة على المصالح لا على الولاءات.

ويؤكد مختصون أن إعادة الاعتبار للقرار الوطني ووضع استراتيجية أمن قومي متماسكة، يمثلان المدخل الحقيقي لاستعادة حضور العراق وتأثيره في محيطه العربي والإقليمي والدولي.

متلقون للازمات ولا قدرة على التأثير

وفي هذا الشأن، يقول الاكاديمي المتخصص بالعلاقات الدولية علي أغوان، أن جوهر أي سياسة خارجية ناجحة يجب أن يُبنى على قاعدة داخلية متماسكة، مشيراً إلى أن العراق يفتقر اليوم إلى مثل هذه الأرضية بسبب الانقسامات الحادة والتدافعات السياسية التي تعرقل تحديد أولويات الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للدولة.

ويضيف اغوان في حديث مع "طريق الشعب"، أن غياب التوافق الداخلي انعكس سلباً على موقع العراق في محيطه الإقليمي، إذ بات في الغالب متأثراً بالأحداث لا مؤثراً فيها، مشيرا الى أن “الخلل البنيوي في إدارة القرار السياسي وتغليب الحسابات الطائفية والعقائدية والشخصية على المصلحة الوطنية، جعل السياسة الخارجية العراقية بلا رؤية واضحة ولا أدوات ضغط فعّالة".

ويجد أن "ضعف الأداء المهني وندرة الكفاءات المتخصصة في صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية، ساهما في تراجع الدور العراقي في ملفات حيوية، مثل الطاقة، والنقل، والوساطة الاقليمية"، مبيناً أن "بغداد تفتقر إلى أوراق قوة حقيقية يمكن توظيفها لحماية مصالحها، بل أصبحت مكبلة بتبعات اقتصادية وأمنية تجعلها رهينة قرارات الآخرين".

ويعتقد أغوان أن "اعتماد العراق شبه الكلي على الخارج في ملفات حيوية كاستيراد الغاز والطاقة الكهربائية، جعله في موقع هشّ أمام أي توتر اقليمي، مثل احتمال إغلاق مضيق هرمز في حال نشوب صراع بين ايران واسرائيل، وهو ما قد يشلّ صادرات النفط العراقية التي تمثل أكثر من 90% من الإيرادات الوطنية".

ويرى اغوان أن الخطاب الرسمي "متشتت"، مؤكدا أن “السياسة الخارجية في الدول المستقرة تُعبَّر عنها مؤسسات الدولة الرسمية عبر وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة، بينما في العراق نجد أحزاباً وشخصيات اعلامية تتحدث باسم الدولة، ما يفقد المواقف الرسمية اتساقها، ويحولها إلى ردود فعل متناقضة".

الملف الخارجي يدار بمزاج سياسي

من جهته، قال المحلل السياسي داوود سليمان إن السياسة الخارجية تمثل “مرآة قوة الدولة الداخلية وميزان احترامها في الاقليم والعالم”، وأضاف أن العراق اليوم "يفتقد رؤية واضحة ومؤسسات فاعلة تدير علاقاته الخارجية وفق منطق المصالح الوطنية لا المجاملات أو الإملاءات".

وأضاف سليمان في حديث لـ"طريق الشعب"، أنّ "الدبلوماسية العراقية أصبحت رهينة المزاج السياسي للأحزاب وتغيّر الولاءات داخل السلطة، ما جعل الخطاب الخارجي متناقضاً وضعيف التأثير، وأفقد العراق هيبته في الملفات الاقليمية الحساسة".

وتابع أن "الدول لا تفرض احترامها بالتصريحات الرخوة أو البيانات المترددة، وانما بالمواقف الثابتة المبنية على استراتيجية أمن قومي واضحة، تُحدد من هو الشريك ومن هو الخصم، وكيف تُدار الملفات الاقتصادية والأمنية بما يحمي المصلحة العليا للدولة".

وأشار إلى أن "غياب التنسيق بين المؤسسات الرسمية وترك الملف الخارجي بيد قوى غير مؤهلة مهنياً أدى إلى تآكل صورة العراق كدولة مؤثرة"، مضيفا انه “من غير المعقول أن تبقى السياسة الخارجية تُدار بردّات فعل على أزمات الآخرين، فيما تُهدر فرص استثنائية لإعادة بناء الدور العراقي الاقليمي”.

وانتقد سليمان غياب الإرادة السياسية لبناء دبلوماسية براغماتية مستقلة، موضحاً أن “الدول القوية لا تنتظر من جيرانها أن يقرروا عنها، بل تبادر وتؤثر وتضع مصالحها فوق كل اعتبار. أما في العراق فالعلاقات الخارجية تُدار بمنطق الترضيات، لا بمنطق الدولة".

وختم حديثه بالقول إن “السياسة الخارجية القوية تبدأ من الداخل: من استقرار القرار السياسي، واحترام المؤسسات، وامتلاك أدوات اقتصادية وأمنية تمنح العراق وزناً حقيقياً. أما في ظل الانقسام والتبعية، فستبقى البلاد تدور في فلك الآخرين بلا اتجاه ولا نفوذ".

انقسام القرار السياسي الداخلي

الى ذلك، قال اللواء الركن المتقاعد والخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، عماد علو، أن العراق لا يمكن اعتباره خارج دائرة التأثير الإقليمي والدولي، لكنه يسعى إلى اتباع مسار متوازن يجنّبه الاصطفاف ضمن التحالفات المتصارعة في المنطقة، في محاولة لتركيز جهوده على تعزيز استقراره الداخلي ومواجهة التحديات الأمنية والإرهابية التي عانى منها على مدى سنوات.

وأضاف علو في حديث مع "طريق الشعب"، أن التوجه الخارجي يتأثر بطبيعة الانقسام القائم داخل المشهد السياسي العراقي المعقد بطبيعته والمتداخل، موضحا أن “وحدة القرار السياسي ما زالت تعاني من التشتت والتقاطعات، إذ تبدي قوى سياسية اعتراضات متكررة على قرارات وإجراءات الحكومة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، ما يحدّ من وضوح الموقف العراقي في الملفات الإقليمية والدولية”.

وتابع أن وتيرة الزيارات المتبادلة بين المسؤولين العراقيين ونظرائهم من الدول الإقليمية والدولية، تدلل على إدراك بغداد لأهمية التواصل الدبلوماسي والانخراط في محيطها الحيوي، وكذلك اهتمام تلك الدول بما يجري داخل العراق.

وشدد على ضرورة استثمار هذا الانفتاح الخارجي في جذب الاستثمارات وإعادة تنشيط الاقتصاد الوطني، بعد سنوات من الاستنزاف، نتيجة الحرب ضد تنظيم داعش ومخلفات الاحتلال الأميركي منذ عام 2003.

وختم حديثه بالتأكيد على ان "نجاح هذه المساعي يبقى مرهوناً بقدرة الطبقة السياسية على توحيد القرار الوطني وتجاوز الانقسامات الداخلية".