اخر الاخبار

وسط ارتفاع مستمر في الأسعار وثبات الرواتب، تضطر الأسر العراقية إلى إعادة ترتيب حياتها اليومية بالكامل، ليصبح التركيز على الضروريات. وقد انعكس هذا الواقع على الغذاء، التعليم، والسكن، وجعل الديون الصغيرة والشراء الآجل جزءًا من حياة الكثيرين. في حين تتفاقم آثار الأزمة الاقتصادية لتطال النسيج الاجتماعي والصحة النفسية للعائلات.

وتصنف رواتب العراقيين بإنها منخفضة عالميا، وتكاد تضع أغلب الأسر تحت ضغط مالي مستمر، خصوصا مع تضخم الأسعار وعدم استقرار الدخل. ووفق بيانات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يبلغ متوسط الدخل القومي للفرد في العراق حوالي 5,000–6,000 دولار سنوياَ (2024)، أي نحو 400–500 دولار شهرياً. وتصل في اغلب الأحيان الى اقل من ذلك.

تآكل القوة الشرائية

من جهته، قال الباحث الاقتصادي أحمد عيد، إن "تآكل القوة الشرائية للراتب الشهري دفع العائلة العراقية إلى تغيير سلوكها في الإنفاق بشكل جذري؛ فالتركيز أصبح الآن على الضروريات فقط بعد تراجع القدرة على تغطية الاحتياجات الشهرية".

وأضاف عيد لـ"طريق الشعب"، أن "الأسر العراقية اضطرت إلى تقليص الكماليات، وتخفيض كميات الغذاء، والبحث عن السلع الأرخص، فضلاً عن تأجيل العديد من النفقات الأساسية، في محاولة للتكيف مع دخل محدود لم يعد يلبّي إلا جزءًا يسيرًا من احتياجاتهم اليومية".

وأوضح، أن "ارتفاع الأسعار وثبات الأجور، إلى جانب ضعف الرقابة على الأسواق، أسهمت بشكل مباشر في توسيع فجوة الدخل والإنفاق لدى الأسر محدودة الدخل". وقال: "الراتب الشهري لم يعد يغطّي سوى أيام قليلة من الشهر، في حين تستمر الأسعار في الارتفاع دون وجود أي ضبط فعّال يمنع الاستغلال أو الاحتكار".

وأشار عيد إلى أن "الديون الصغيرة والشراء الآجل أصبحا جزءا من الاقتصاد اليومي للأسر العراقية، من ديون الدكاكين إلى الأقساط المنزلية والقروض الصغيرة، ما أدى إلى خلق حالة من الهشاشة الاجتماعية، تتفاقم بشكل كبير مع أي تعثّر في السداد أو فقدان مفاجئ للدخل".

ولفت إلى أن "تخفيف العبء عن الأسر العراقية يتطلب سياسات عاجلة تشمل ضبط أسعار السلع الأساسية، وتطوير رقابة حقيقية على الأسواق، وإعادة النظر بسلم الرواتب بما يتوافق مع مستوى الأسعار، إلى جانب توسيع شبكات الحماية الاجتماعية، وتوفير فرص عمل منتجة تضمن دخلاً يكفي الأسرة طوال الشهر وليس لأيام معدودة فقط".

ومع هذا الحال، يخشى مراقبون من تزايد التحديات المالية التي تواجه الاقتصاد بشكل مقلق، في ظل الإعلان عن ارتفاع الدين الداخلي إلى نحو 90 تريليون دينار عراقي (نحو 69 مليار دولار)، وهو مستوى غير مسبوق في البلاد.

واتخذ المجلس الوزاري للاقتصاد التابع لرئاسة الحكومة، مجموعة قرارات خاصة بتقليص الإنفاق وتعظيم الإيرادات، من بينها تقليص الإنفاق للرئاسات الثلاث (الجمهورية، الوزراء، البرلمان) وتوحيد رواتب موظفيها، وتخفيض تخصيصات الإيفاد لموظفي الدولة إلى 90%، في إجراء لم يكن مفاجئاً بالنسبة للمراقبين في العراق، لا سيما مع وجود تأكيدات كثيرة بشأن قلة السيولة المالية، إضافة إلى إنفاق كبير غير مبرر في الحكومة المنتهية ولايتها برئاسة محمد شياع السوداني.

فجوة كبيرة بين الدخل والأسعار

فيما يرى الباحث الاقتصادي عبد الله نجم، أن "عدم استقرار الدخل الشهري انعكس بشكل مباشر على قرارات العائلة العراقية طويلة الأمد، إذ لم يعد التعليم يُنظر إليه كاستثمار للمستقبل بقدر ما أصبح عبئا ماليا يصعب تحمله، فيما بات السكن المؤجل والاعتماد على الإيجار خيارا قسريًا للكثير من الأسر، في حين تراجع التخطيط للإنجاب في ظل غياب الشعور بالأمان الاقتصادي".

ويؤكد نجم لـ"طريق الشعب"، أن "الاقتصاد غير الرسمي تحول إلى ركيزة أساسية في حياة عدد كبير من العائلات العراقية، حيث تلجأ الأسر إلى الأعمال الجانبية والعمل اليومي والمشاريع الصغيرة داخل المنازل لتعويض العجز في الرواتب، ورغم أن هذا النوع من النشاط الاقتصادي يفتقر إلى الحماية القانونية والاستقرار، إلا أنه يشكل متنفسا مؤقتا لسد فجوة الدخل".

ويشير إلى أن "التحويلات المالية من الأقارب داخل العراق وخارجه لعبت دورًا مهمًا في إبقاء كثير من العائلات فوق خط الفقر، لا سيما تلك التي تعتمد على دعم الأبناء أو الأقارب العاملين في الخارج"، موضحا أن "هذا الدعم يعكس هشاشة الاقتصاد المحلي أكثر مما يعكس قوة شبكة الأمان الاجتماعي".

كما يلفت عبد الله نجم إلى أن "الضغط المالي المستمر خلف آثارا عميقة على النسيج الأسري، حيث تصاعدت حالات التوتر والقلق داخل العائلة، وانعكس ذلك على العلاقة الزوجية وتربية الأطفال والصحة النفسية بشكل عام، ما جعل الأزمة الاقتصادية تتجاوز بعدها المالي، لتتحول إلى أزمة اجتماعية ونفسية تمس الاستقرار المجتمعي بأكمله".

الراتب لا يسد حتى الاحتياجات الأساسية

يقول المواطن محمد جاسم، وهو موظف براتب محدود، إن "الحياة صارت صعبة بشكل غير مسبوق، الراتب بالكاد يكفينا لشراء الطعام، وكل شيء آخر صار ثانويا. كنت أشتري بعض الكماليات لبيتي ولأطفالي. أما اليوم، فقد أصبح كل شيء مرتبطا بالضروريات فقط، اللحوم والاسماك والعديد من المواد الغذائية ارتفعت. ولا داعي للحديث عن مواد الحصة التموينية، لأن غالبية موادها لا تصلح للاستهلاك.

ويضيف محمد: "نضطر أحيانا لتأجيل دفع بعض الفواتير أو الاحتياجات الأساسية لأن الراتب لا يكفي. كما هناك ديون صغيرة وشراء الأجهزة الكهربائية المنزلية بالآجل، وقد صارت جزءا من حياتنا اليومية، وكل تأخير في السداد، يزيد من القلق والتوتر داخل البيت".

ويشير إلى أنه لا يستطيع التفكير في تعليم أبنائه أو تحسين وضعه السكني: "كل يوم نحاول التأقلم مع الأسعار التي ترتفع باستمرار، دون أن يكون هناك أي ضبط حقيقي لها، أو دعم من الدولة".

خطر المساس بقوت الموظفين

ان المساس برواتب الموظفين في ظل هذا الواقع الاقتصادي المتأزم يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في العراق. إذ تواجه الأسر ضغوطًا هائلة نتيجة ارتفاع الأسعار وثبات الرواتب، وتآكل القوة الشرائية، ما يجبرها على التركيز على الضروريات واللجوء إلى الديون والشراء الآجل. فان أي تخفيض للرواتب سيزيد هشاشة الوضع المالي للأسر ويعقد قدرتها على تلبية أبسط متطلبات الحياة، ما يؤدي إلى تفاقم التوتر الأسري والضغوط النفسية ويهدد النسيج الاجتماعي بأكمله.

ويجب التأكيد على أن القضية ليست ذنب الموظفين، بل هي نتيجة سياسات اقتصادية ومالية فاشلة. إلى جانب ذلك، يمثل التلاعب أو الضعف في قيمة الدينار العراقي مقابل العملات الأجنبية خطرًا إضافيًا يزيد من أزمة القدرة الشرائية ويجعل أي راتب محدود عاجزًا عن تغطية الاحتياجات الشهرية.

لذلك، فإن صانعي القرار ملزمون بحماية رواتب الموظفين، وإقرار سياسات مالية تحفظ قيمة الدخل وتواكب التضخم الفعلي، مع تطوير شبكات دعم اجتماعي حقيقية تضمن استمرار الأسر العراقية في تغطية احتياجاتها الأساسية، وتفادي الانزلاق نحو أزمات اجتماعية ونفسية متزايدة تهدد الاستقرار المجتمعي.