في وقت تتزايد فيه الشكاوى الشعبية من تفاقم النفايات في المدن العراقية، تكشف الإحصاءات الرسمية عن فجوة خدمية واسعة تطال ملايين السكان، بينما تحذر الجهات البيئية من تحول الملف إلى أزمة صحية وبيئية متصاعدة. وبين تناقص التخصيصات الحكومية، وتراجع كفاءة الشركات المتعاقدة، وضعف الالتزام المجتمعي، يبدو أن المدن تواجه تحديًا تتداخل فيه المعوّقات الإدارية والاقتصادية والسلوكية، لتنعكس مباشرةً على نظافة الأحياء واستقرار البيئة المحلية.
ثلث العراقيين خارج الخدمات البلدية
أظهرت بيانات دائرة الإحصاءات البيئية في العراق حجم التحدي الذي تواجهه المدن العراقية في إدارة النفايات، بعدما كشفت أن ثلث السكان لم يكن مخدوماً بخدمات جمع ونقل النفايات خلال عام 2024.
وبينت الدائرة في إحصائية رسمية أن نسبة التغطية بلغت ٦٩ في المائة فقط على مستوى البلاد باستثناء إقليم كردستان، ما يعني بقاء شريحة واسعة من السكان خارج أي منظومة خدمية منتظمة.
ووفق الأرقام، التي اطلعت عليها "طريق الشعب"، سجلت محافظتا كركوك وذي قار أعلى نسبة للخدمة في المناطق الحضرية بنسبة 100في المائة، بينما جاءت محافظة صلاح الدين في أدنى المستويات بنسبة 66.1 في المائة فقط من السكان الحضر المشمولين بجمع النفايات.
وأشارت الدائرة إلى أن أغلب مواقع التجميع المؤقت للنفايات تعمل من دون الحصول على الموافقة البيئية، رغم وجود 86 محطة تحويلية غير نظامية تُستخدم لهذا الغرض، لا تتمتع بالمواصفات المطلوبة، في حين لم تحصل سوى ثلاث محطات فقط على الموافقة البيئية.
كما أوضحت الإحصاءات أن مشاريع فرز وتدوير النفايات تكاد تكون غائبة، إذ لا يتجاوز عدد معامل التدوير أربعة معامل فقط في عموم البلاد: اثنان منها ما يزالان قيد الإنشاء، وواحد يعمل بطاقة متواضعة في أطراف بغداد لا تتجاوز طنًا واحدًا يومياً. فيما المعمل الرابع في محافظة ذي قار متوقف عن العمل.
عجز المنظومة الخدمية!
ويحذر المراقب للشأن المحلي والموظف السابق في بلدية صلاح الدين، أحمد السامرائي، من تفاقم أزمة بيئية خطرة تهدد واحدة من أهم منظومات المياه في المحافظة، بعد رصد كميات كبيرة من النفايات الطافية داخل الجدول الرئيس المغذي لمشروع ماء قضاء طوزخورماتو.
ويؤكد السامرائي لـ "طريق الشعب"، أن ما يجري "لا يقتصر على مشهد نفايات عابرة"، بل يمثل تهديدا مباشرا لمصدر يعتمد عليه آلاف السكان، مشيراً إلى أن تلوث المجرى المائي قد يفتح الباب لانتشار أمراض منقولة عبر المياه، ويُلحق ضررا واسعا بالنظام البيئي المحلي الذي يعتمد بشكل أساسي على هذا المورد".
ويضيف أن الأهالي وجهوا نداءات عاجلة إلى الجهات الحكومية ودوائر البلدية والمياه، مطالبين بإزالة الملوثات وتفعيل الرقابة على مجاري الأنهر والجداول، ومحاسبة المتسببين بإلقاء النفايات في المصادر المائية، خصوصا أن مشروع ماء الطوز يُعد الشريان المائي الأهم للمنطقة، ما يجعل أي تلوث فيه بمثابة تهديد يومي لصحة المجتمع واستقراره.
ويشدد على أن المشكلة لا تكمن فقط في تراكم الملوثات، بل في عجز المنظومة الخدمية عن التعامل مع هذا النوع من الأزمات. فبرغم عقد الحكومة لاجتماعات عديدة ومناقشات موسعة حول ملف إدارة النفايات وحماية المجاري المائية، إلا أن النتائج على الأرض ما تزال محدودة.
ويعزو ذلك إلى نقص التخصيصات المالية، وضعف أجور العاملين، وغياب المعدات والآليات اللازمة لتنفيذ حملات تنظيف شاملة ومنتظمة، فضلًا عن قصور الكوادر الحالية عن تغطية الاحتياجات الفعلية للسكان.
ويتابع أن استمرار الوضع بهذه الصورة قد يقود إلى تدهور أكبر، محذرًا من أن "الوقت ليس في صالح المناطق التي تعتمد على مجاري المياه الملوثة، وأن أي تأخير في المعالجة سيحوّل الأزمة البيئية إلى أزمة صحية واجتماعية يصعب احتواؤها".
انتشار الأمراض
الخبير البيئي سيف مسلم الكرعاوي يصف الأمر بأنه أحد أكثر أشكال التدهور البيئي قسوة ووضوحا، مشددا على أن القضية ليست مجرد "منظر مزعج"، بل منظومة تتزايد خطورتها منذ لحظة رمي النفايات على الأرض وحتى وصولها إلى مواقع ردم غالباً ما تكون مفتوحة وغير نظامية.
يشرح الكرعاوي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن النفايات المتراكمة تتحول سريعا إلى بؤر للتلوث، تتحلل، وتطلق مواد كيميائية وميكروبات تتسرب إلى التربة والمياه الجوفية، وتستقطب الحشرات والقوارض، ما يؤدي إلى ارتفاع الإصابات بالأمراض المعوية والتنفسية والجلدية، خصوصًا في الأحياء الفقيرة والمهمشة.
وتُظهر التقديرات أن العراق ينتج بين 30–40 ألف طن من النفايات الصلبة يوميا، بمعدل يتراوح بين 1–1.4 كغم للفرد الواحد يوميا، فيما يُطرح الجزء الأكبر منها في مواقع ردم بدائية لا تستوفي المعايير البيئية.
ويضيف انه "مع لجوء السكان أو الجهات المحلية إلى الحرق العشوائي للتخلص من هذه النفايات، يتصاعد مستوى آخر من الخطر. فالدخان المنبعث محمل بجسيمات دقيقة وغازات سامة، تُفاقم أمراض الربو والقلب والرئة، وتزيد من تلوّث الهواء وتسهم في تغيّر المناخ".
ويشير الكرعاوي إلى أن ما يحدث قرب الأنهار أكثر خطورة، إذ يعني عمليًا تلويث مصادر مياه الشرب ومحاصيل الغذاء معًا.
ويتحدث الكرعاوي عن إحصاءات وزارة البيئة لعام 2024 اذ تكشف حجم الفجوة الخدماتية: "ثلث السكان في مناطق خارج إقليم كردستان، لا يحصلون على خدمة جمع ونقل النفايات بصورة منتظمة، ما يعني ترك مئات آلاف الأطنان في الشوارع والأراضي المفتوحة، أو التخلّص منها بالحرق".
أما الدراسات الأكاديمية الحديثة فتُظهر صورة أكثر تعقيدا؛ ففي عدد من المحافظات لا تتجاوز نسبة تغطية جمع النفايات 70 في المائة من الكميات المنتجة، في حين أن إعادة التدوير لا تتعدى 5 في المائة وتتم غالبا بطرق غير رسمية، بينما يُدفن أو يُحرَق الباقي بشكل عشوائي، ما يفاقم من تدهور البيئة والصحة العامة.
ويشدد بالقول علة انه "أمام هذا الواقع، تبدو أزمة النفايات في العراق أكثر من مشكلة خدمية؛ إنها أزمة بيئية وصحية واجتماعية متشابكة، تتطلب سياسات واضحة وبنية تحتية فعّالة، قبل أن تتحول إلى عبء لا يمكن احتواؤه على المدن وسكانها".
الأهالي يتعاقدون مع كابسات خاصة
يقول مدير بلدية الديوانية، مصطفى المياحي، أن ملف النفايات وآلية معالجتها في الديوانية يشهد تفاوتاً واضحاً، تبعاً لجهة الخدمة المسؤولة في كل حي.
ويضيف المياحي أن المناطق المؤهلة خدمياً تدار نفاياتها عبر كوادر وآليات بلدية الديوانية، ورغم قِدم هذه الآليات وتهالكها، فإنها ما تزال قادرة على معالجة ما يزيد عن نصف النفايات اليومية، وهو ما اعتبره إنجازاً لا يمكن تجاهله.
ويتابع المياحي في تعليق لـ"طريق الشعب"، أن عدداً من الأحياء يتفق سكانها فيما بينهم على التعاقد مع آليات أهلية تعمل مقابل مبالغ تجمع شهرياً من الأهالي، الأمر الذي أسهم في الحفاظ على نظافة تلك المناطق بشكل أفضل.
في المقابل، يشير الى أن المناطق غير المخدومة بالخدمات الأساسية مثل التبليط والأرصفة تقع مسؤولية نظافتها على عاتق شركة محلية لديها عقد رسمي مع محافظة الديوانية لتقديم آليات وأيدٍ عاملة لتأدية مهام رفع النفايات في النصف الشمالي من المحافظة، إلا أن أداء الشركة ـ بحسب المياحي ـ يشهد تلكؤاً كبيراً، سواء في إنجاز المهام الموكلة لها أو في مستوى الجاهزية التشغيلية.
وينبه الى أن الشركة لا تمتلك عدداً كافياً من العمّال أو الآليات، كما أن المناطق المناطة بها تتعارض مع نطاق عمل البلدية، ما يمنع كوادر البلدية من التدخل لحلّ الإهمال الحاصل. وهذا التداخل ـ كما يقول ـ أدى إلى تراكم النفايات بشكل لافت في الأحياء الواقعة ضمن مسؤولية الشركة مقارنةً بمناطق البلدية، وهو ما أثار استياءً واسعاً بين سكان الديوانية تجاه أداء الشركة المتعاقدة.
ويختتم المياحي حديثه بالإشارة إلى أن الواقع الخدمي في الديوانية يشهد اليوم ما وصفه بـ "انهيار واضح" في بعض المناطق بسبب سوء إدارة ملف النفايات من قبل الشركة الأهلية، مقابل أداء متفاوت لكنه أفضل في المناطق التي تتولاها البلدية.
أمانة بغداد ترفع 10 آلاف طن يوميا
من جهته، يقول عدي الجنديل، مدير إعلام أمانة بغداد، إن العاصمة تضم مناطق داخل التصميم الأساسي وأخرى خارجه تُصنف كمناطق زراعية يمنع القانون تقديم الخدمات البلدية لها.
ويوضح أن جميع المناطق الواقعة داخل التصميم الأساسي مخدومة برفع النفايات بشكل يومي وعلى أربع وجبات، بينما تتدخل الأمانة في بعض المناطق الزراعية "بدافع إنساني" رغم أن القانون لا يجيز لها ذلك.
ويبين الجنديل لـ"طريق الشعب"، أن عمليات رفع النفايات تُعد جزءًا ثابتًا من إجراءات أمانة بغداد، مشيرًا إلى أن الأمانة ترفع يوميًا نحو 10 آلاف طن من النفايات من مختلف مناطق العاصمة.
لكن ورغم هذا الجهد، يؤكد الجنديل أن السيطرة الكاملة على ملف النظافة ما تزال معرقلة بسبب سلوكيات المواطنين في رمي النفايات عشوائيا، وليس بسبب نقص العمال أو الكوادر كما يُشاع. ويشير إلى أن الأمانة وضعت توقيتات واضحة لرمي النفايات، إلا أن عدم التزام المواطنين بها يمثل "المشكلة الأساسية" التي تعيق تحسين الواقع الخدمي.
ويختتم بالقول إن الأمانة لا تواجه مشكلات في نقل النفايات أو طمرها، بل في ثقافة التعامل معها، وهو ما يتطلب تعاونا أكبر من السكان للحفاظ على نظافة العاصمة.
وبالرغم من تأكيدات الأمانة بشأن السيطرة على الوضع الخدمي، يشير مواطنون إلى تفاقم تراكم النفايات حتى داخل المناطق الحضرية المشمولة بالتصميم الأساسي، مؤكدين أن المشكلة لا تقتصر على الأطراف أو المناطق الزراعية.
ويذهب بعض المواطنين الى أن بعض عاملي البلدية لا يرفعون النفايات من أمام المنازل إلا مقابل "كرامية".