اخر الاخبار

مع تفاقم أزمة المياه وعدم اتخاذ الجهات الحكومية خطوات جادة للحد من تداعياتها، يجد آلاف الفلاحين أنفسهم مضطرين للالتفات إلى باطن الأرض بحثًا عن الماء، عذبا كان أم مالحا، لينقذوا ما تبقى من مزروعاتهم ودوابهم العطشى. إذ أصبح التوجه إلى حفر الآبار الارتوازية خيارا اضطراريا في الكثير من المناطق الريفية، بعد أن تراجعت حصص الإرواء أو ألغيت تماما على إثر جفاف الأنهر والسواقي. لكن هذا المسار يثير قلق خبراء في مجالات الزراعة والموارد المائية والبيئة. حيث يحذرون باستمرار من استنزاف خطير للمياه الجوفية، قد لا يمكن تعويضه.

وتُعد ميسان من أكثر المحافظات توجّها نحو المياه الجوفية، بعد تراجع الإطلاقات المائية في نهر دجلة عن معدلاتها الطبيعية، وبالتالي جفاف نحو 60 في المائة من الأنهر المتفرعة عنه، والتي تُغذي القرى والأرياف.

وأُجبر آلاف المزارعين في ميسان على حفر آبار ارتوازية يتراوح عمقها بين 80 و150 مترا لتأمين احتياجاتهم المنزلية والزراعية من المياه، رغم ملوحتها التي تتجاوز 4 آلاف جزء في المليون، ما يجعلها غير صالحة للشرب - حسب خبراء في قطاع الزراعة.

ومع انعدام البدائل السطحية وغياب الحلول العاجلة، باتت الآبار تمثل طوق النجاة الوحيد، في وقت يحذر فيه الخبراء من أن الاعتماد المفرط عليها يهدد بانخفاض حاد في منسوب المياه الجوفية، وينذر بأزمة بيئية وزراعية متفاقمة.

وكانت الهيئة العامة للمياه الجوفية قد باشرت تنفيذ حملة عاجلة لحفر مجموعة من الآبار لتوفير المياه في المحافظة، استجابةً لنداء الاستغاثة الذي أطلقته قرى عديدة في قضاء الكميت. 

جفاف غير مسبوق

رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في ميسان، كريم حطّاب جيجان، يقول أن "الفلاحين اضطروا خلال الشهور الماضية إلى حفر عشرات الآبار الارتوازية في مختلف مناطق المحافظة، بعد أن جفّت السواقي وتراجعت الإطلاقات المائية في نهر دجلة إلى مستويات غير مسبوقة".

ويوضح في حديث صحفي أن "هذه الآبار جاءت حلاً اضطرارياً لتأمين جزء من احتياجات السكان والمزارعين، لكنها غير كافية ولا تحقق سوى الحد الأدنى من المتطلبات الزراعية"، مضيفا أن "المياه المستخرجة من أغلب الآبار مالحة وغير صالحة للاستخدام البشري، ما يفاقم معاناة الأهالي الذين يعانون أصلاً شحّا حادا في الموارد السطحية".

ويشير جيجان إلى ان "هناك قرى وأريافا عديدة جفت بالكامل وتوقفت فيها الزراعة تماماً"، داعيا هيئة المياه الجوفية، وهي تابعة لوزارة الموارد المائية، إلى التدخل العاجل لتوسعة الآبار وزيادة أعماقها، وإنشاء محطات لتحلية المياه في المناطق المتضررة.

ويرى أن "إنقاذ ميسان من الجفاف يتطلب حلولاً جذرية لا إجراءات مؤقتة". 

نموذج صارخ للأزمة

من جانبه، يقول عضو لجنة الزراعة والمياه البرلمانية رفيق الصالحي، أن "ميسان تمثل اليوم نموذجاً صارخاً لحجم الأزمة المائية التي تعيشها البلاد، بعد أن تراجعت مناسيب نهر دجلة إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، ما أجبر المزارعين على حفر الآبار الارتوازية لتأمين مياه الري والشرب".

ويوضح في حديث صحفي أن "الاعتماد المفرط على المياه الجوفية بات يشكّل تهديداً خطيراً. إذ تشير البيانات إلى انخفاض منسوبها في أكثر من 40 منطقة في البلاد، بعضها فقد آباره بالكامل. فيما اضطر آخرون إلى حفرها لأعماق إضافية تراوحت بين 30 و50 في المائة بسبب الجفاف والتغيرات المناخية".

ويضيف الصالحي قوله أن "الوضع في ميسان يستدعي تدخلاً عاجلاً، لأن المياه الجوفية التي تُعد شريان الحياة لسكان القرى والأرياف تتعرض لاستنزاف متسارع، في ظل توقف الينابيع الطبيعية وجفاف الجداول الفرعية".

مياه تُفسد المحاصيل

في السياق، يقول المزارع راجي عليوي، أن "الأزمة تجاوزت إمكاناتنا وجعلتنا عاجزين عن مواجهتها"، مبينا في حديث لـ"طريق الشعب"، انه "حفرنا أكثر من بئر بحثًا عن ماء صالح للري، لكن المياه تصلنا منها إمّا مالحة أو محمّلة بمواد ضارة تُفسد المحاصيل بدل أن تنقذها".

ويضيف قوله أن "مياه الشرب والاستخدامات المنزلية هي الأخرى أصبحت نادرة. إذ نضطر إلى شرائها من السيارات الحوضية التي تزور منطقتنا بين فترة وأخرى. وأحيانا تتأخر في المجيء فنُجبر على جلب المياه بأنفسنا من مناطق بعيدة، ما يُضاعف من متاعبنا ويُثقل كواهلنا بنفقات إضافية".

ويرى عليوي أن "الجهات الحكومية لم تتعامل مع معاناتنا بجدية، ولم تقدّم لنا حلولا ملموسة رغم تفاقم الوضع".

ويتابع بأسف قائلا: "لم يعد أمامي خيار سوى ترك أرضي، كما فعل أشقائي الذين اضطروا لترك أراضيهم والهجرة إلى المدن بحثًا عن مهن بسيطة وبائسة يعيلون بها عائلاتهم".

ظاهرة مقلقة

إلى ذلك، يقول الخبير المائي عادل المختار، أن "لجوء السكان والمزارعين في ميسان ومناطق أخرى من العراق إلى حفر الآبار الارتوازية، أصبح ظاهرة مقلقة تعكس عمق أزمة إدارة الموارد المائية في البلاد"، مبينا في حديث صحفي أن "الاعتماد المفرط على المياه الجوفية من دون رقابة أو تنظيم علمي سيقود إلى نتائج كارثية في المدى القريب".

ويلفت إلى أن "العراق يعيش حالياً مرحلة استنزاف مائي مزدوج، بسبب تراجع إطلاقات المياه السطحية من دول المنبع، في حين يجري سحب المياه من الطبقات الجوفية بوتيرة تفوق قدرتها على التعويض الطبيعي بأربع إلى خمس مرات".

ويبيّن المختار أن "الكثير من الآبار التي حُفرت في الجنوب تُستخرج منها مياه مالحة أو تحتوي على نسب كبريتية مرتفعة. وتبلغ نسبة الملوحة فيها أكثر من 4 جزء في المليون، ما يجعلها غير صالحة للاستخدام البشري وقد تؤثر سلباً على التربة الزراعية مع مرور الوقت".

ويؤكد أن "الحل لا يكمن في التوسع بالحفر، إنما من خلال وضع خطط وطنية شاملة لإعادة تغذية المخزون الجوفي، وإنشاء مشاريع للحصاد المائي ومعالجة المياه من أجل تأمين بدائل مستدامة"، محذّراً من أن "استمرار الوضع الراهن قد يؤدي إلى تصحّر مناطق زراعية واسعة في عموم البلاد".