اخر الاخبار

تعد محافظة البصرة قلب الاقتصاد العراقي وأغنى مدنه بالنفط، لكن سكانها يعيشون اليوم وسط واحدة من أخطر الأزمات البيئية في البلاد؛ فبينما تحتضن المحافظة أكثر من 70 في المائة من احتياطي النفط العراقي، تختنق سماؤها بدخان الحقول وتغمرها روائح الغاز المحترق، ما جعل من “نعمة النفط” نقمة تهدد حياة الناس وصحتهم.

وتشير شهادات محلية وتقارير طبية إلى تزايد ملحوظ في أعداد المصابين بالأمراض السرطانية والتنفسية خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً في المناطق القريبة من مواقع استخراج النفط، حيث تتصاعد الانبعاثات الغازية بلا رقابة فاعلة أو حلول جذرية، في ظل صمت حكومي يثير قلق الأهالي وخبراء البيئة على حد سواء.

وبالحديث عن تزايد حالات الإصابة بالأمراض السرطانية والتنفسية، عزا النائب عن محافظة البصرة علي عبد الستار المشكور، الأسباب إلى الانبعاثات الغازية الناتجة عن عمليات استخراج النفط، مبيناً أن "هذه الظاهرة باتت تهدد حياة المواطنين بشكل مباشر، لا سيما في المناطق القريبة من الحقول النفطية مثل الزبير والقرنة والرميلة".

وقال المشكور في حديثه لـ"طريق الشعب"، إن "محافظة البصرة تشهد ارتفاعا في معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية والسرطانية بسبب الانبعاثات الغازية المصاحبة لاستخراج النفط، في ظل غياب إجراءات بيئية فاعلة، للحد من التلوث".

ودعا النائب الحكومة ووزارة النفط إلى "إدراج فقرة خاصة بالانبعاثات الغازية ضمن جولات التراخيص النفطية المقبلة، تلزم الشركات باتخاذ تدابير صارمة لحماية البيئة وتقليل الآثار المترتبة على عمليات الإنتاج"، مؤكداً أن "حماية صحة المواطنين يجب أن تكون أولوية وطنية لا تقل أهمية عن العوائد الاقتصادية التي تحققها الصناعة النفطية".

هواء البصرة خليط من المواد السامة

وقال محمد الياسري، متخصص في الكيمياء الحياتية، إنّ “الهواء في البصرة لم يعد نقياً كما كان؛ فعمليات حرق الغاز المصاحب في الحقول النفطية تطلق خليطاً من الغازات السامة التي تُعد من أخطر الملوثات الكيميائية على الإطلاق".

وأضاف الياسري في تعليق لـ"طريق الشعب"، أن "انبعاثات مثل ثاني أوكسيد الكبريت وأوكسيدات النيتروجين والجسيمات الدقيقة الناتجة عن الاحتراق غير المنضبط، لا تبقى في الهواء فقط، بل تتفاعل مع المكونات الجوية لتنتج مركّبات أكثر سمية، تؤدي إلى التهابات مزمنة في الرئتين وتضعف المناعة وتزيد من احتمالات الإصابة بالسرطان".

فيما حذر الياسري من أن "خطر التلوث لا يتوقف عند الهواء، بل يمتد إلى عمق الأرض والمياه الجوفية بفعل تسرب المواد الكيميائية الناتجة عن المصانع النفطية ومحطات المعالجة"، مشيراً إلى أن "هذه الترسبات السامة تغيّر تركيب التربة وتضعف خصوبتها، كما تجعل المياه غير صالحة للاستخدام الزراعي أو البشري، وهو ما يشكل تهديداً مباشراً للغذاء وصحة السكان".

وتابع أن "ما يحدث اليوم في البصرة ليس تلوثاً عادياً، بل أزمة بيئية متكاملة الأبعاد، تتفاقم مع غياب الرقابة وضعف المعالجة الحكومية"، لافتاً إلى أن "المدينة أصبحت تُصنف من بين أكثر المدن تلوثاً في الشرق الأوسط، ما يستدعي إعلان حالة طوارئ بيئية ووضع خطط عاجلة للحد من الانبعاثات وتنقية مصادر المياه والتربة".

تفاقم الأمراض السرطانية والتنفسية

من جهته، قال سعد البصراوي، ناشط بيئي من محافظة البصرة، إن "مع غياب الحلول الجذرية حتى الآن، تبقى سماء البصرة محملة بدخان الحقول ومخلفات مواقد الغاز التي لا تنطفئ، فيما يتزايد قلق سكانها من أن تتحول محافظتهم الغنية بالنفط إلى بؤرة للأمراض والتلوث البيئي المستدام".

وأضاف البصراوي في تعليق لـ"طريق الشعب"، أن "المشهد في مناطق مثل الرميلة والقرنة لا يختلف كثيراً، حيث سحب سوداء كثيفة تغطي الأفق ليل نهار، وروائح خانقة تحاصر البيوت والمدارس والمزارع"، ويؤكد ان "الإحصاءات المحلية تشير إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات أمراض السرطان والحساسية والربو بين الأطفال والنساء على وجه الخصوص".

وأوضح البصراوي أن "الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز المصاحب ليست مجرد مظهر بصري مزعج، بل هي مصدر لمواد كيميائية سامة كأول أوكسيد الكربون والهيدروكربونات الثقيلة التي تتغلغل في الهواء والماء والتربة"، مؤكداً أن "السكوت الرسمي عن هذه الكارثة يمثل تجاهلاً لحق الناس في بيئة نظيفة وصحية".

وختم بالقول إن "الأهالي يشعرون بأن ثروة النفط التي كان يُفترض أن تكون نعمة، تحولت إلى عبء يهدد حياتهم اليومية، في ظل غياب رقابة بيئية حقيقية أو استراتيجيات حكومية للحد من التلوث، وهو ما يجعل أزمة البصرة البيئية تتجه نحو مرحلة خطيرة إن لم تُتخذ إجراءات عاجلة".

البصريون بمواجهة كارثة بيئية يومية

من جهتها، قالت د. زهراء كاظم، الطبيبة الأخصائية في البصرة، إنّ "الواقع الصحي في المحافظة يواجه ضغوطاً كبيرة نتيجة الارتفاع المستمر في أعداد المصابين بالأمراض السرطانية والتنفسية، خاصة في المناطق القريبة من الحقول النفطية".

وأضافت كاظم لـ"طريق الشعب"، أن "أغلب المستشفيات في البصرة تعمل بإمكانات محدودة لا تتناسب مع حجم الإصابات، فعدد الأسرة المخصصة لمرضى السرطان أقل بكثير من الحاجة الفعلية، كما أن بعض الأجهزة التشخيصية والعلاجية تعاني من أعطال متكررة أو نقص في المواد المشعة والمحاليل الضرورية للفحوصات".

وأشارت الى أن المحافظة افتتحت مستشفى بسعة ما يقارب ٤٠٠ سرير، مطالبة بإيجاد قسم خاص للأمراض التنفسية.

وتابعت أن "المرضى يضطرون في كثير من الأحيان للسفر إلى بغداد أو خارج العراق لإكمال علاجهم بسبب قلة الأدوية الكيماوية وتفاوت وصول الجرعات في المواعيد المقررة، ما يؤثر سلباً على نتائج العلاج ويضاعف معاناة العائلات"، مؤكدة أن "الأمراض التنفسية أيضاً تسجل زيادة لافتة، فيما تفتقر المستشفيات إلى أجهزة تنقية هواء وغرف عزل مناسبة لحالات الربو والتحسس الشديد".

وختمت كاظم بالقول إن "الواقع الصحي في البصرة لا يمكن فصله عن أزمة التلوث البيئي، فالمستشفيات اليوم تعالج نتائج كارثة بيئية يومية، في حين أن الحل الحقيقي يبدأ من السيطرة على مصادر الانبعاثات وتقليل التلوث في الهواء والماء، وليس فقط من قاعات العلاج".