اخر الاخبار

كلّما سمعت اغنية "أحيا وأموت عالبصرة"، أخذتني الذاكرة الى زمن الطفولة والصبا والبراءة والوداعة، حيث الشطّ والأنهار التي تتألق روعةً بمياهها العذبة  التي تعطيك بهاءً، وجمالاً، وتمنحك رونقاً وبهجة، وهي تجري بين النخيل والخضرة، و ( تلبط ) أسماكها بين الحين والآخر، وكيف كنّا نسبح أيام القيظ لنهرب من الحرّ، ونغترف بأيدينا الماء منها عذباً زلالاً حين نظمأ. نعم كانت البصرة يُضرب المثل ببهائها وبخضرة ضفافها، وكتب عنها الرحّالة الأقدمون ومن زارها متأخراً حتى سبعينيات القرن الماضي، مياهٌ رقراقةٌ عذبةٌ تُسر  الزائرين، انهار تخترق المدينة من كل مكان، تمخرها الزوارق و المهيلات والمشاحيف والبلام بين البيوتات، وتحت القناطر والجسور الخشبية تمرقُ صافيةً عذبة تتلألأ مويجاتها بأشعة الشمس نهاراً وتداعب ضوء القمر ليلاً، حتى وُصِفتْ بــ "فينيسيا الشرق" أسوةً بفينيسيا الغرب – البندقية.

 كانت البصرة مدينة الأنهار والجمال والطبيعة الخلّابة، شوارعها نظيفة وأرصفتها خضراء مفعمة بالورد والحشائش، أزقّتها تفوح فيها ليلا رائحة ملكة الليل والياسمين، وتسمع أغاني الخشّابة والهيوة في كلّ مناسبة سعيدة. لكنها اليوم تبكي ذلك الماضي الجميل وتتمنى أن تعود إليه. أتساءل: هل يمكن أن يتمنى المرء العودة للماضي؟ ولماذا؟ الجواب: نعم، لأن الحاضر لا يُحتمل!

والأسوأ منه أن نظل مصرّين عليه ونزيده سوءاً وخرابا !

علينا جميعا أن ننظر ببصيرة ثاقبة إلى حاضرنا ونقارنه بالماضي الذي كان جميلاً، وما هي إلّا نخوةُ غيرةٍ لبصرتنا حتى نجعلها أجمل مما كانت عليه سابقاً. البصرة في ثمانينيات القرن الماضي تحمّلت عبء حربٍ لا معنى لها، فقط خسارة أرواح ودمار وخراب. وتحمّلت عبئاً اكبرعام 1991، ثم تحمّلت أكبر وأكبر عام 2003 وما بعدها. هذا الخراب الذي استمرّ سنوات لابدّ أن تُعتِم ستائره وظلاله نهارات البصرة، وتُشيع البؤس والخراب والدمار والأوساخ في شوارعها وأزقّتها، وتغدو مياه أنهارها آسنة تحمل مخلفات المجاري والمعامل والمستشفيات وغيرها، ما أشاع الأوبئة والأمراض التي ما انفكّت تفتك بأهلها، ويمتدّ اللسان الملحي من مياه الخليج ليقتل الزرع والضرع والطيور.

 وإذا سأل أحدهم: كيف نعيد جمالها!

نجيب قائلين: بوقفة صدقٍ وانتماءٍ حقيقي لهذه المدينة، وبتثقيف الناس حول جماليتها وتراثها، لا بالتجهيل وبصيحات يراد منها مسح جمالية البصرة الى الأبد. كذلك بتجهيز مناطقها وأحيائها وشوارعها بشبكات مجارٍ حديثة، يمكن استعمال مياهها في صناعات تخدم الصالح العام. وأن نمتلك الضمير الحي النابض بمحبّتها ومحبّة أهلها، حينما نشرع بالعمل وتحسين الخدمات والكهرباء وتوظيف العاطلين وانهاء أزمة السكن.

علينا أن نتذكّر دائماً إن البصرة هي أمّنا الثانية التي تحنو علينا، وإنها الجذر والحضن الذي نعود إليه كلما اشتدّ بنا الحنين، لتكونَ حركتنا أقوى وأسرع في إعادة صفائها وبهجتها وضحكة أبنائها، ولتسود السعادة والمحبة قلوب الجميع بلا دعايات ساذجة مغرضة، للنيل من مدنيتها وتراثها الفنّي الخالد بأساليب رخيصة، لمنع الغناء وما شابه ذلك فيها.

علينا أن نعود نغنّي في كل مكان: بصرتنه ما عذبت محب، احنه العشك عذّبنه.