اخر الاخبار

تتردّد في الحملة الانتخابية هذه الايام شعارات مثل قوة وازدهار، قوة واقتدار، قوة وشباب، عراق قوي، عراق مقتدر، نحن القوة، قوى الدولة، نحن الدولة، نحن الأمة، ترافقها صور متجهّمة بأحجامٍ هائلة تغطي واجهات العمارات. ملامح متورّمة بالغرور، وألفاظ بلا محتوى، كأنها طلاءٌ جديد على جدارٍ قديمٍ متصدّع. والسؤال الجوهري يبقى: ما الذي يريدونه من تضخيم صورهم؟ وعن أيّ قوة يتحدثون حقاً؟

القوة الحقيقية ليست في استعراض الصور، ولا في عدد البنادق، ولا في طول مواكب الحمايات، بل في قدرة الدولة على بناء الإنسان والمجتمع. فحين يصبح السلاح لغة السياسة، يغيب القانون. والدولة التي تخاف من مواطنيها وتخيفهم ليست قوية، لأنها فقدت جوهر القوة، أي العدالة.

القوة تبدأ من قوة المواطنة، حين يشعر المواطن بالمساواة في الحقوق والواجبات، لا يُقصى بسبب انتمائه، ولا يُفضَّل عليه أحد بولاءٍ حزبي أو طائفي. فالمواطنة هي القيمة الأصدق في مواجهة المحاصصة، وهي ما يجعل العراقي يرى في دولته بيتاً له، لا سجناً يفرّ منه إلى المنافي.

القوة أيضاً في الاقتصاد المنتج، لا في الاقتصاد الريعي الذي جعل الدولة تعتمد على النفط وتُهمل القطاعات الاقتصادية الأخرى. فالوطن لا يُبنى على ريعٍ متقلّب، بل على زراعةٍ وصناعةٍ حديثتين تُداران بالعلم والتكنولوجيا، وتفتحان باب العمل أمام الشباب. الدولة القوية هي التي تضمن لمواطنيها تأميناً صحياً وضماناً اجتماعياً يحميهم من الفاقة والعوز، ويجعل الكرامة حقاً لا امتيازاً.

وتتجلّى القوة كذلك في نزاهة مؤسسات الدولة وخلوّها من الفساد، فالأمم تنهض حين تُدار مواردها بشفافية وعدالة. كما تتجسّد القوة في جمال الوطن، في نظافة شوارعه، وتنظيم مؤسساته، ومدنه التي تُدار بعقلٍ عصري. فالجمال نظامٌ أخلاقي قبل أن يكون مظهراً بصرياً، والمجتمع الذي يحافظ على بيئته ومرافقه يحافظ على ذاته.

أما التعليم والثقافة، فهما المعيار الأعمق للقوة. التعليم يحرّر الإنسان من الجهل، والثقافة توسّع أفقه وتعيد له قدرته على النقد والإبداع. فالعقل المتعلّم أقوى من أي جيش، والمعرفة هي الحصن الحقيقي للأمن.

القوة الحقيقية تكمن في تحقيق العدالة الاجتماعية، في التوزيع العادل للثروة، وفي إنصاف من يعملون بعرقهم. لكن حين تتحوّل السلطة إلى أداة لحماية الامتيازات، تفقد قوتها التاريخية وتتحول إلى عبءٍ على الناس.

القوة تكمن كذلك في تحديث الدولة وعصرنتها، في استخدام التكنولوجيا في الإدارة، وفي تحويل العمل الحكومي من الورق إلى الأنظمة الذكية. فالدولة التي لا تواكب العصر محكوم عليها بالبقاء في الهامش، مهما رفعت من شعارات.

فالعراق القوي هو العراق الذي تُقاس قوته بعدالة مؤسساته، وجمال مدنه، ونزاهة إدارته، وصحة مواطنيه، ووعي شعبه. هو الذي يُعيد للسياسة معناها الإنساني، وللاقتصاد وظيفته الاجتماعية، وللدولة وجهها المدني.

القوة التي نحتاجها اليوم ليست صدى الشعارات ولا مظاهر الاستعراض، بل هي قوة المواطنة، وعدالة التوزيع، ونزاهة الحكم، ومعرفة بناء المستقبل. تلك هي القوة التي تبني وطناً لا يستعرض نفسه، بل يعيش حضوره في كرامة أبنائه.

ويبقى عبثا الحديث عن دولة قوية، تُدار بعقلٍ فاسد وإرادةٍ مشلولة في ظل الطائفية السياسية.