حذرت مبادرة “عراقيون”، وهي تجمع يضم نخبة من المثقفين والناشطين والأكاديميين، من أن استمرار التستر على الجناة والمقصرين في الكوارث المتكررة في العراق، سيؤدي إلى “انفجار شعبي كبير لا يُحمد عقباه”. وأكدت المبادرة، في بيانها عقب فاجعة حريق الكوت، أن إفلات الجناة من العقاب بات ظاهرة ممنهجة تشمل حوادث واغتيالات وحرائق راح ضحيتها آلاف المواطنين دون محاسبة فعلية، مشيرة إلى أن غياب العدالة وتدوير المسؤولين بدلاً من محاسبتهم، وتغييب نتائج التحقيقات، كلها أسباب جوهرية تؤجج الغضب الشعبي، وتدمر الثقة بمؤسسات الدولة.
البيان :
أعاد حريق الكوت مؤخراً سؤال العراقيين المستمرّ منذ أكثر من عشرين عاماً: متى تتم محاسبة المقصّرين؟
لقد أدّى فشل المؤسسات المختصّة في القيام بواجباتها الدستورية، ومحاباة منظومة المراقبة والمحاسبة للمقصّرين والجناة، أو عجزها عن أداء دورها في محاسبتهم.. أدّى كلّ ذلك إلى عشرات الكوارث والحوادث والحرائق التي سبقت حريق الكوت، منها على سبيل المثال حريق مستشفى ابن الخطيب، ومستشفى الحسين، وحريق قاعة أعراس الحمدانية، وغرق العبارة في الموصل، وحريق قسم الخدّج بمستشفى اليرموك، وغيرها الكثير، فإن جرت في حالات نادرة محاسبة بعض المقصرين المباشرين، فإنّ المقصرين غير المباشرين بقوا أحراراً، بينما هم السبب الأوّل بإعطاء موافقات الإنشاء خارج المواصفات الفنية وإجراءات السلامة والأمان، مقابل مغانم خاصة لهم أو للجهات السياسية التي تقف خلفهم.
في هذا الصدد، تؤكد مبادرة «عراقيون» أنّ استمرار التستر على الجناة والمقصرين بسبب انتماءاتهم السياسية أو خلفياتهم الطائفية والقومية أو بسبب التخادم بين السياسيّين وأصحاب رؤوس الأموال، نقول إنّ استمرار هذا التستر يزيد – من دون شكّ – حالة الغليان الشعبي، وقد يؤدي يوماً ما إلى انفجار كبير لا تُحمد عُقباه. وليس هذا السلوك ببعيد عما ألفناه من تستّر على الجناة في جميع عمليات الاغتيال التي طالت المدنيين من محتجين واعلاميين ومثقفين لا لشيء سوى تعبيرهم عن آرائهم السياسية المكفولة دستورياً أو قيامهم بعملهم في فضح الفساد أو التصدي للخراب. فكل هذه الجرائم يقف خلفها عمل جرمي أكبر منها هو حماية الجناة أو محاباة المقصرين أو محاسبتهم شكلياً ثم إعادة تدويرهم بما يؤمن افلاتهم من العقاب بشكل متكرر.
وحتى لا يبدو للعراقيين أن حريق الكوت حادثة معزولة أو أنها فاجعة عادية يمكن أن تحدث في أي بلد فإننا نود التذكير ببقية الحوادث التي أفلت المقصرون فيها أو الجناة من الكشف والمحاكمة. وفي أدناه عدد من الشواهد على ظاهرة «الإفلات من العقاب» لجرائم مختارة في السنوات الأخيرة، وندعو الجهات المعنية إلى إتمام قائمة كاملة بها في المستقبل القريب:
أولا: ضحايا احتجاجات تشرين (2019-2020)، من شهداء وجرحى بالآلاف، بعد أن تم تصويب الأسلحة النارية عليهم بدم بارد، فضلاً عن الذخائر المتفجرة، واقتحام ساحات الاعتصام، وحرق الخيام، وقد مرّت كل تلك الأفعال الإجرامية الشنيعة من دون كشف الفاعلين الحقيقيّين، ولا مُصدِري الأوامر، حتى اليوم.
ثانياً: قائمة بجرائم الاغتيال لبعض النشطاء والاعلاميين والمثقفين للفترة من 2019 إلى 2021، وهي جرائم لم يحاسب الجناة فيها رغم كثرتها وتقارب اوقاتها وتشابه ظروفها السياسية حيث ان المجني عليهم من المحتجين، فإذا جرى اعتقال أو محاكمة الجانين المباشرين فلم تتم اتاحة الفرصة للمجتمع العراقي لمعرفة الجهات التي تقف خلفهم، ولم تكن محاكماتهم معلنة.
التاريخ والاسم والمهنة
2/ 2/ 2019: علاء مشذوب/ روائي وناقد/ كربلاء
4/ 10/ 2019: علي جاسب حطاب اللامي/ ناشط في احتجاجات ميسان28/ 10/ 2019: صفاء السراي/ شاعر وناشط في احتجاجات بغداد.
6/ 11/ 2019: أمجد الدهامات/ ناشط في احتجاجات ميسان2/ 12/ 2019: زهرة علي سلمان/ طالبة كلية وناشطة في احتجاجات بغداد6/ 12/ 2019: أحمد المهنا/ مصوّر كان يوثّق يوميات احتجاجات ت.
شرين في بغداد8/ 12/
2019: فاهم الطائي/ ناشط في احتجاجات كربلاء
11/ 12/ 2019: علي نجم اللامي/ شاعر وناشط في احتجاجات الكوت وبغداد.
25/ 12/ 2019: ثائر الطيب/ ناشط في احتجاجات الديوانية.
10/ 1/ 2020: أحمد عبد الصمد وصفاء غالي صحفيان بقناة دجلة.
حكم بإعدام قاتلهما
10/ 3/ 2020: كرار عادل/ محامٍ وناشط في حقوق الإنسان بميسان.
10/ 3/ 2020: عبد القدوس قاسم/ فنان مسرحي وناشط في احتجاجات ميسان.
9/ 5/ 2020: أزهر الشمري/ ناشط في احتجاجات ذي قار
6/ 7/ 2020: هشام الهاشمي/ باحث أمني/ اعترف قاتله في شريط متلفز بقتله، ثم تم الإفراج عنه بحجة أن اللجنة التحقيقية لم تكن قانونية.
14/ 8/ 2020: تحسين أسامة/ ناشط في احتجاجات البصرة
17/ 8/ 2020: ياسر كاظم/ ناشط في احتجاجات بغداد
19/ 8/ 2020: ريهام يعقوب/ طبيبة وناشطة/ البصرة15/ 9/ 2020: شيلان دارا/ ناشطة في.
بغداد (قتلت في ظروف غامضة بحجة السرقة)
9/ 5/ 2021: إيهاب الوزني/ منسق احتجاجات كربلاء
10/ 5/ 2021: أحمد حسن/ مراسل قناة الفرات
ثالثاً: حوادث المرافق الترفيهية والتجارية العامة التي راح ضحيتها مواطنون للفترة من 2018 إلى 2025، منها على سبيل المثال:
- يوم 15/ 9/ 2018: غرق المطعم العائم في نهر دجلة (منطقة الكرادة/ بغداد) الذي ذهب ضحيته ما يقارب الثمانية مواطنين بسبب تخطّي حد الحمولة الأقصى وتقادُم التوصيلات المعدنية. وقد اقتصرت الإجراءات المتخذة على فتح تحقيق ولم تُسجَّل قرارات إقالة أو إحالة إلى القضاء.
- يوم 21/ 3/ 2019: انقلبت عبّارة في نهر دجلة (الموصل) غرق بسببها 103 من المواطنين (بينهم 12 طفلاً). وأيضا كان السبب هو الحمولة التي زادت عن أربعة أضعاف السعة المسموح بها مع ارتفاع منسوب النهر. وقد اقتصرت الإجراءات آنذاك على إصدار البرلمان قراراً بإقالة محافظ نينوى نوفل العاكوب، واعتقال مالك العبّارة وعدّة مهندسين كانوا قد صدّقوا على صلاحيتها. 3. يوم 24/ 25 نيسان 2021 شب حريق في مستشفى ابن الخطيب في بغداد، توفي فيه.
وجُرح 110 من المرضى المحجور عليهم وقائياً بسبب فايروس كورونا. وذلك بسبب انفجار أسطوانات أوكسجين داخل ردهة العزل، مع الافتقار لنظام الإنذار المبكر أو منظومات الإطفاء الآلية. وقد اقتصرت الإجراءات على سحب يد وزير الصحة (استقال لاحقاً) ومحافظ بغداد ومدير المستشفى عن العمل، واحتجاز مسؤولي الصيانة لحين انتهاء التحقيق القضائي، لكن إلى اليوم لم يتم الإعلان عن أي محاكمات جنائية علنية أو تحديد المسؤوليات بناءً على مسار قضائي واضح.
- يوم 12/ 7/ 2021 شب حريق في مستشفى الحسين التعليمي (في الناصرية)، راح ضحيته 92 قتيلاً وأكثر من 100 مصاب، والسبب كان نفسه: انفجار خزان أوكسجين في ردهة عزل مرضى فيروس كورونا، وكانت الردهة مصنوعة من ألواح ساندويش شديدة الاشتعال، مع افتقار شديد لإجراءات الحماية والوقاية. اقتصرت الإجراءات حينها على أوامر قبض فورية بحق مدير المستشفى ومديري الصحة والدفاع المدني في ذي قار، مع لجنة تحقيق اتحادية وتعليق عمل عدد من المسؤولين المحليين، من دون محاكمات جنائية علنية.
- يوم 26 أيلول 2023 شب حريق في قاعة أفراح الحمدانية (قضاء قرقوش/ نينوى)، راح ضحية له 113 قتيلاً و150 جريحاً، بسبب استعمال المفرقعات داخل قاعة الافراح التي أدت إلى اشعال السقف المكون من ألواح بلاستيكية قابلة للاشتعال والتسمم أيضاً مع افتقار شديد لإجراءات الحماية والوقاية. أما الإجراءات المتخذة فقد أدت إلى إيقاف أصحاب القاعة، وحظر المفرقعات في القاعات المغلقة، وإقالة مدير الدفاع المدني في المحافظة، مع تعهّد حكومي بتعديل مدوّنة شروط السلامة للبنايات العامة، ولم تمتد الإجراءات إلى تحديد المسؤولين عن منح التراخيص لإنشاء قاعة مناسبات خارج الشروط النافذة.
- 16/ 7/ 2025 حريق مول الكوت (واسط)، راح ضحيته 69 مواطناً و11 مفقوداً مع صعوبة التعرف على 18 جثة متفحّمة. والسبب غياب مخارج الطوارئ وأجهزة الإنذار والاطفاء الآلي ما أدى إلى تفاقم الحريق الذي اندلع في طابق بيع العطور ومستحضرات التجميل.
إنّ تكرار الحوادث والحرائق والكوارث يدعونا إلى تشخيص عدد من العوامل التي تقوم عليها ظاهرة «الإفلات من العقاب» المستفحلة في العراق:
- دائماً ما يتم تشخيص المشكلة من دون علاجها. فكلّ كارثة تنتهي بتقرير يُدين “الإهمال” من دون تفاصيل، ما يجعل العقاب ينتشر كالضباب فلا يمسّ أحداً.
- إفراغ القوانين من محتواها بعدم تنفيذها. فعلى سبيل المثال: يُلزم قانون الدفاع المدني منذ 2010 مباني العراق بتنصيب وسائل إنذار ومخارج طوارئ لكنّ رشوةً صغيرةً كافية دائماً لقلب الوصف من «غير صالح» إلى «مجاز» – حتى داخل المستشفيات والمؤسسات الخدمية المهمة.
- الاكتفاء بالإجراءات الشكلية. منها تشكيل اللجان التي لا تنشر تقارير أعمالها النهائية أمام الرأي العام، ما حرم الأهالي والرأي العام من أداء الدور الرقابي في مساءلة الجهات المسؤولة.
- تدوير المسؤولين بدل مساءلتهم. فقد أقيل محافظان وأستقال آخر مؤخراً بسبب هذه الكوارث، ثم عاد بعضهم إلى مناصب أخرى في مؤسسات الدولة أو الحياة السياسية بلا قيود قانونية أو تشريعية، هذا الأمر يشمل أيضاً قادة ومسؤولين في الأجهزة الأمنية جرى إعفاؤهم في زمن استخدام العنف ضدّ المحتجين العزّل، ثم العودة لاحقاً إلى «تكريمهم» بمناصب أخرى.
- هدر الميزانيات التي تصرف لأغراض بناء منظومات السلامة في وزارات ومؤسسات الدولة. إذ تُخَصِّص الموازنة العامة للدولة سنوياً مليارات الدنانير لمنظومات سلامة ومستلزمات دفاع مدني متهالك، لكن الحرائق تكشف عن مطافئ معطّلة وسلالم إنقاذ لا تعمل، وسيارات قديمة متهالكة.
- عدم تحديد المسؤولين عن الحوادث المأساوية بشكل دقيق وواضح، ما يؤدي إلى إفلاتهم من العقاب وهذا يؤشر خللا كبيرا في النظام السياسي نفسه ما يستدعي شمول العلاج للنظام وليس للأفراد ومؤسسات الدولة الفرعية فقط.
… استنادا إلى هذه العوامل، تحدد مبادرة «عراقيّون» مجموعة من الخطوات لإنهاء حالة الإفلات من العقاب، وتدعو الجهات الفاعلة في العراق، قضاءً، وحكومةً ومجلس نواب، لدعم تنفيذها بأسرع ما يمكن، إكراماً لأرواح الضحايا، وإنقاذاً لحياة العراقيين من المخاطر المستقبلية:
- نشر قرارات المحاكم وتقارير التحقيق المتعلقة بالاغتيالات وعمليات الخطف السياسية كاملة للرأي العام.
- حماية القضاة والشهود من ضغط الجهات المتنفذة.
- نشر فوري لكافة تقارير التحقيق النهائية السابقة الصادرة عن اللجان المشكلة بخصوص حوادث المرافق العامة لتحديد المقصّرين والجهات المسؤولة بشكل دقيق وواضح.
- تضمين قانون الدفاع المدني نصوصا تشريعية حازمة، تجرّم منح أي رخصة تشغيل أو بناء بلا شهادة سلامة، مع سجن فوري لمانح الرخصة وللمالك عند مخالفتهما.
- ربط تعيين واختيار وانتخاب مسؤولي الدولة بسجلّ سلامة خالٍ من الحوادث.
- اعطاء دور أكبر للرقابة المجتمعية باطلاع الرأي العام على تقارير الدفاع المدني عبر منصة إلكترونية شفافة.
- تبني منظومات سلامة وإدارة مخاطر تستند إلى المعايير الدولية الرصينة مع منهجيات للتدقيق والمعايرة والمتابعة من قبل جهات رقابية مستقلة.
ختاماً.. لقد كفل الدستور العراقي للعراقيين جميعا الحق في الحياة الكريمة والصحة والأمن والخدمات، عبر واجبات تؤديها مؤسسات الدولة المختصة، وعبر منظومة مراقبة ومحاسبة تراقب أداء موظفي الخدمة العامة في هذه المؤسسات وتحاسب المقصرين منهم بما يكفي للحيلولة دون تكرار ذات التقصير وبما يؤدي إلى حفظ دماء المواطنين وحماية حقوقهم وأموالهم، وإنّ التستّر المستمرّ على الجناة سيؤدي يوماً – كما قلنا – إلى انفجار كبير.