ما تزال الطروحات تترادف حول نخبوية الثقافة العربية وإنسداد أفق تداولها العام بما يجعلها ذات تأثير محدود لا يتعدى الحيز الاكاديمي او النخبة التي تمارس هذا الطقس الثقافي او ذاك، ثقافة بلا جمهور ! بلا تأثير ملموس نطلق عليه غالبا تحولات ثقافية و هو الامر الغائب عربيا و عراقيا بدرجة أشد، لا تحولات بالمرة بل نشهد تراجعات و نكوص و افراغ الفعالية الثقافية، النصوص و الخطابات من حراكها الفاعل و تحويلها الى ما يشبه الممارسة الطقسية في كهوف الكهنة و الرهبان المعزولين في أعالي الجبال ! في مهرجانات الشعر الشعراء جمهور الشعراء ! و في السرد سارد يحكي لسارد أسرار ممارسة سرية يتبادلها أهل الاختصاص نفسه أو ما نطلق عليهم بالنخبة المعزولة بفعل نوع اشتغالها و نوع أدائها الذي يخضع لاضطرارات شتى نكون قد قبلناها لاسباب شتى ايضا . في كتاب المفكر اللبناني علي حرب (أوهام النخبة) هناك استطرادات تفصيلية حول نوع الاداء الثقافي المخطوء و الذي يؤدي الى هذا النوع من العزلة و لعل اخطر شيء على هذا الصعيد هو وهم التفكير نيابةً عن الناس! و بما يعني اختزالهم في نموذج المثقف نفسه ، هذا استعلاء ونوع من النرجسية الموهومة بلا شك. وعلى الصعيد نفسه ترادفت مفاهيم (الثقافة الرفيعة) التي تجعل من الثقافات الاخرى هامشا لها او في مرتبة دون مرتبتها و لعل العولمة في هبوبها المجنون قلعت خيام هذه (الرفيعة) بل قذفتها في عراء فادح و تيه لا تعرف اين هي الان ، ربما في صالونات (النخبة) تلفظ انفاسها الأخيرة مدعية عقوق جمهورها المفترض! تنبهنا في مشروع (البديل الثقافي ) و منذ اكثر من عقدين لهذا النوع من ثقافة الإجترار ، هذيانات النخب و مهرجاناتها المغلقة و مواسمها القاحلة ، معارض كتب و لقاءات بلا جدوى حقيقية و لا أثر ملموس كما يراد من الفعل الثقافي فيما لو كان ثقافيا حقا ! هل ما نراه و نشهده هو الثقافة حقا ؟ ام انها قشرة ذائبة في الاعلام و متطلبات السلطة و الوجاهة الاجتماعية و طلبات الوظيفة.. الخ من سياقات لا ثقافية تتلبس لبوس الثقافة !
ما البديل ؟
كم نحتاج الى مكاشفات تطال المفاهيم و الافكار التي تصلبت بفعل العادة و التكرار غير المجدي ؟ كم هي دقيقة عبارة الشاعر الفرنسي سان جون بيرس (كل شيء ينبغي ان يعاد و يقال من جديد و ليمرّ مِنجل البصر على المحصول كله) ! نعرف الثقافة بتحولاتها، أثرها، بصمتها على صفحة الحياة، اضافتها الواضحة لحركة تحسين الاداء العام و بخلاف هذا فهي صلاة ميتة في محراب الوهم ! هذيانات فصيحة اذا صح القول او رطانات يؤديها بأتقان أهل البدلات الأنيقة في صالات مضاءة إضاءة مؤقتة لن تصمد طويلا.. نحتاج الى شيء يحكّ جلد الواقع، يوخز، يتساءل و يؤسس متاحات للتغيير ، ما نطلق عليه ( تنويرا) هذا هو الجهد الحقيقي و ليس غيره.