يحتلّ الاقتصادي والمفكر المصري الدكتور رمزي زكي مكانة فريدة في الفكر العربي المعاصر، ليس فقط لصرامته التحليلية أو لقدرته على تبسيط المفاهيم الاقتصادية المعقدة، بل لأنه نجح في إعادة توطين علم الاقتصاد داخل حاضنته الأصلية: الاقتصاد السياسي. لقد كان رائدًا في فضح الارتباط العميق بين الاختلالات الاقتصادية وبين علاقات السلطة والنظام العالمي، وعمل طوال سيرته على تقويض التفسيرات السطحية التي تروج لها النيوليبرالية حول البطالة، النمو، التكيّف الهيكلي، والنظام المالي العالمي. وفي كتابه "الاقتصاد السياسي للبطالة" الذي صدر عام 1998 عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، بلغ مشروعه الفكري ذروة نضجه النظري والمنهجي، مقدّمًا أحد أهم التشخيصات العربية لجوهر الأزمة البنيوية للرأسمالية الحديثة. تنبع أهمية رمزي زكي من أنه لم يتعامل مع الاقتصاد بوصفه علماً تقنياً أو جملة معادلات رياضية معزولة عن الواقع المادي والاجتماعي. كان يرى أنّ الاقتصاد الحقيقي يُقرأ من خلال علاقات الإنتاج، ومن خلال فهم ديناميات رأس المال، ومن خلال اكتشاف البنية الطبقية التي تخفيها اللغة المحايدة للنظريات السائدة. ومن هنا جاءت شهرته باعتباره "مفكرًا لا اقتصاديًا"، لأن رؤيته تجاوزت حدود النظرية الاقتصادية التقليدية إلى فضاء أوسع يدمج الاقتصاد في السياسة والتاريخ والمجتمع. في كتابه عن البطالة، يعيد زكي تعريف الظاهرة من جذورها. فهو يبدأ بنقض الفكرة السائدة التي ترى البطالة مجرد خلل مؤقت، أو حالة عرضية، أو نتيجة "انكماش في الطلب" سرعان ما تُحلّ بتعديلات في الأجور أو بسياسات قصيرة المدى. وفقًا لزكي، البطالة ليست حدثًا، بل بنية. وليست أزمة قطاع معين، بل أزمة في نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه. فالنظام الرأسمالي، كما يؤكد، ينتج البطالة بنفس القدر الذي ينتج السلع؛ إنها جزء من آلية عمله، لا من عيوبه المؤقتة. هذه الرؤية تأتي امتدادًا للنقد الماركسي، لكنها تذهب أبعد من ذلك. ففي حين تشير الماركسية التقليدية إلى "جيش الاحتياط الصناعي" الذي تستفيد منه الرأسمالية لخفض الأجور وزيادة أرباحها، يعمّق زكي هذا التحليل عبر تتبّع التحولات التي ضربت بنية سوق العمل منذ سبعينيات القرن الماضي، مع صعود العولمة المالية، وتفكك دولة الرفاه في أوروبا، والانتقال الواسع للإنتاج إلى دول العمالة الرخيصة، والثورة التكنولوجية التي قلّلت الحاجة إلى العمالة المباشرة وزادت الإنتاجية بطريقة لم يرافقها تحسن في مستويات التوظيف. فالبطالة في رأي زكي لم تعد هامش النظام، بل صارت إحدى شروط بقائه. يتميّز الكتاب بقدرته على تحليل الظاهرة ضمن مستويات أربعة: البلدان الصناعية، الدول التي كانت اشتراكية، البلدان النامية، والعالم العربي. وفي كل مستوى، يحفر زكي عميقًا في تفسير الأسباب البنيوية التي تقف وراء ارتفاع نسب البطالة، ويربطها بمنطق النظام العالمي. ففي العالم المتقدم، يبيّن كيف تحولت مرحلة التوظف الكامل التي ميزت ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجرد ذكريات، وجاءت مكانها معدلات بطالة مزمنة تفاقمت بفعل السياسات النيوليبرالية والتجارة الحرة غير المتكافئة. وفي الدول الاشتراكية السابقة، يرصد الانهيار المفاجئ لسوق العمل مع تفكك الاقتصاد المخطط، وصعود اقتصاد السوق من دون بنية إنتاجية قادرة على استيعاب ملايين العمال المسرّحين. أما في البلدان النامية، فيكشف عن البطالة البنيوية الناتجة عن هشاشة الاقتصاد، واتساع القطاع غير الرسمي، وغياب الصناعات التحويلية، وارتباط الاقتصادات بطابع ريعي يخلق وظائف هشة ولا يؤسس لنمو حقيقي.
لكن القيمة الأكبر التي يقدّمها زكي تكمن في تحليله للبطالة في الدول العربية. قبل ربع قرن من الآن، كان يرى بوضوح أن الاقتصادات العربية تسير نحو انفجار بطالي واسع، نظرًا لاعتمادها على ريوع النفط، وتقلص دور الصناعة، وغياب التخطيط التنموي، وتضخم الدولة دون بناء قاعدة إنتاجية. تنبؤه هذا أثبتت العقود الأخيرة صحته بدقة لافتة، إذ أصبحت البطالة اليوم جزءًا لا ينفصل عن الأزمة السياسية والاجتماعية في عدد كبير من الدول العربية. فوق كل ذلك، يتفرد زكي بقدرته على تفكيك المدارس الاقتصادية التي قدّمت تفسيرات مختلفة للبطالة، من الكلاسيك والنيوكلاسيك إلى الكينزية. لم يكن ينقدها من موقع أيديولوجي، بل من موقع معرفي دقيق، مستندًا إلى بيانات واسعة ومقارنات طويلة المدى. فعندما ينتقد الكلاسيكيين الذين يعتبرون البطالة حالة مؤقتة تزول بمجرّد خفض الأجور، يبرز كيف أن السوق لا يعمل بهذه البساطة، وأن الأجور لا تتحدد في فراغ، بل في إطار صراع اجتماعي وسياسي. وعندما يناقش الكينزية، يعترف بدورها في تفسير بطالة الثلاثينيات لكنه يكشف حدودها في ظل اقتصاد عالمي مالياً أكثر منه إنتاجياً. أما في نقده للنيوكلاسيكية، فيُظهر تناقضات نماذجها الرياضية التي تفترض أسواقًا مثالية لم توجد يومًا، وتُرجع بطالة ملايين البشر إلى "اختيار فردي" أو "جمود في الأجور" وكأن العالم يعيش في مختبر لا في واقع قائم على الاحتكار والتفاوت. قراءة زكي للثورة التكنولوجية أيضاً تتسم بعمق خاص. فهو يرفض التفسير التقني الصرف للبطالة التكنولوجية، مؤكداً أنّ التكنولوجيا لا تخلق بطالة بذاتها، بل ضمن إطار محدد: إطار الرأسمال الذي يسعى إلى تعظيم الربح بتقليل العمالة. أما في نظام تنموي آخر، فالتكنولوجيا قد تزيد من فرص العمل بدل تقليصها. هذا الطرح يجعل تحليله متجاوزاً للخطابات التبشيرية بالتكنولوجيا من جهة، وللنزعات الرافضة لها من جهة أخرى، ليضعها في سياق وظيفتها ضمن البنية الاقتصادية الكبرى. يصل التحليل في الباب الثالث إلى بعده السياسي الواضح: ما العمل؟ هنا يقترح زكي رؤية توظيفية وتنموية تكسر هيمنة النيوليبرالية على السياسات الاقتصادية. فهو يدعو إلى إعادة بناء دور الدولة الإنتاجي، والتوسع في المشروعات كثيفة العمالة، وإصلاح التعليم والتدريب، وتحجيم المضاربات المالية التي تبتلع الموارد ولا تنتج وظائف، واعتماد سياسات صناعية وطنية تُعيد الاعتبار للعمل المنتج. لم يكن زكي من دعاة الحلول السحرية، بل من المؤمنين بأن البطالة بطابعها البنيوي تتطلب استراتيجيات بنيوية بدورها، وأن الدول التي تسلّم قيادها لقوى السوق ستذهب مباشرة نحو نموذج اقتصادي بلا وظائف.
إن أهمية رمزي زكي اليوم مضاعفة. فالعالم الذي وصفه في نهاية التسعينيات—عالم البطالة الدائمة، التفاوت الطبقي الحاد، تخلخل دولة الرفاه، صعود الشركات العابرة للقوميات، وانحسار دور الدولة—قد أصبح واقعاً محسوساً. والأزمة المالية العالمية عام 2008، وما تبعها من سياسات تقشف، ثم التحولات الرقمية التي سرّعت فقدان الوظائف، وأخيراً أزمات ما بعد الجائحة، جعلت تحليلات زكي أكثر راهنية من أي وقت مضى. على المستوى العربي، تبدو قراءته جارحة في صدقها: بطالة الشباب، ضعف التصنيع، الاقتصاد الريعي، اختلال بنية التعليم، وتوسع الطبقات الهامشية. هذه الظواهر ليست مجرد نتائج لسياسات خاطئة، بل هي، كما قال زكي، بنى راسخة في اقتصاد لا ينتج ولا يشغّل. لقد كان رمزي زكي واحداً من الأصوات النادرة التي واجهت خطاب السوق الحرة بالتحليل العميق، وكشف أن "العلاج الليبرالي" ليس سوى تعميق للمرض. وكان من بين القلائل الذين جعلوا من الاقتصاد علمًا حيًا يفهم الواقع لا يهرب منه، ويقرأ الظواهر لا يخفيها، ويضع السياسة في قلب الاقتصاد لا خارجه. اليوم، وبعد مرور أكثر من عقد ونصف على رحيله، يظل رمزي زكي حاضراً كمرجع وكمحذّر وكشاهد على قدرة الفكر النقدي العربي على إنتاج معرفة مستقلة وجذرية. إن "الاقتصاد السياسي للبطالة" ليس مجرد كتاب، بل مشروع لفهم العالم كما هو، وللبحث عن عالم أكثر عدلاً، ولتفكيك الأساطير التي تحكم الخطاب الاقتصادي السائد. باختصار، أهمية رمزي زكي تتجلّى في أنه قدّم للعقل العربي نموذجًا نادرًا للمفكر الذي لم ينخدع ببريق الرأسمالية، ولا بسحر النيوليبرالية، ولا بوعود السوق الحرة. أعاد إلى الاقتصاد روحه النقدية، وإلى الفكر قيمته الأخلاقية، وإلى القارئ القدرة على رؤية ما وراء الخطاب الرسمي. لقد كتب عن البطالة، لكنه كتب في الحقيقة عن الإنسان-عن قيمته، وحقه في العمل، وحقه في حياة كريمة.