اخر الاخبار

يُعدّ الرفيق فخري كريم (أبو نبيل) من أبرز الشخصيات السياسية اليسارية والثقافية التقدمية البارزة في تاريخ العراق المعاصر، ومن الوجوه الأساسية في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي. جمع في تجربته بين العمل السياسي والفكري والإعلامي، وكرّس حياته في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، سواء من خلال نضاله في الوطن ضد الدكتاتورية، أو عبر نشاطه في المنفى والمنابر الدولية دفاعاً عن قضية العراق وشعبه. منذ أن خطّ أولى خطواته السياسية في سن السادسة عشرة، وحتى اليوم، بقي صوته حاضراً في كلّ لحظة مفصلية من تاريخ العراق المعاصر، مدافعاً عن حلم لم يتزحزح: عراق ديمقراطي، متحرّر من الاستبداد والتبعية، يتّسع لجميع المواطنين بعدل وكرامة.

  عرفه الفكر والثقافة والكتابة، كما عرفته ميادين السياسة والحركة الثقافية والمفاوضات الصعبة. وكان من أشدّ المدافعين عن استقلال القرار الوطني، والمبادرين في بناء جسور الحوار بين الفرقاء السياسيين، دون أن يتخلّى عن بوصلته الفكرية والطبقية.

 كمثقف منخرط في الهمّ العام، لعب دوراً محورياً في تشكيل الوعي النقدي ما بعد 2003، وساهم في بلورة خطاب مدني ديمقراطي يسعى إلى تجاوز الطائفية والمحاصصة نحو دولة المواطنة والمؤسسات.

النشأة والبدايات السياسية

وُلد الرفيق فخري كريم (أبو نبيل) في بغداد عام 1942ونشأ في قضاء الحبانية بمحافظة الأنبار وسط أسرة كادحة.

تُعَدُّ الحبانية فسيفاء اجتماعيَّةً فريدةً، اجتمعت فيها أعراقٌ متنوّعةٌ ومتعايشةٌ بسلام، وجمعت شرائحَ تبحث عن لقمة عيش كريمة في زمنٍ مضطرب.

انخرط في النشاط السياسي في عمر السادسة عشرة، ونشط بشكل لافت بعد ثورة 14 تموز 1958 متأثراً بمناخ النهوض اليساري الذي اجتاح العراق. التحق بالحزب الشيوعي العراقي مبكراً، وتميز بين رفاقه بشغفه الفكري ومواقف عملية رصينة، يجمع بين سرعة البديهة وقوة الاقناع والنزاهة الشخصية مع الصلابة التنظيمية. مع الاعتماد على نفسه معيشياً ومنذ فتوته، تنقل بين مهنٍ صغيرةٍ – من البيع والشراء إلى أعمالٍ متنوعةٍ – ليسهم في إعالة عائلته ويبلور في نفسه إحساساً مبكراً بالمسؤولية والاعتماد على الذات.

صقلته تجارب تنظيم العمل الحزبي وحلقات التثقيف اليساري، ووسّعت آفاقه التحليلية. امتاز بالوضوح والصراحة والروح النقدية، فكان صوتاً شجاعاً في الدفاع عن الفقراء والحريات وحق العراقيين في وطنٍ عادلٍ لا يحكمه الطغيان ولا تقسمه الطائفية.

تاريخ حزبي حافل من أجل الكرامة

منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، انكبّ فخري كريم على العمل السياسي والتنظيمي بإخلاص نادر، متنقلاً بين ساحات النضال الشبابي والنشاط الثقافي، والهم النقابي، والعمل الصحفي. وسرعان ما أصبح من الكوادر الفاعلة في تنظيمات الحزب ببغداد، قبل أن يتوسّع دوره ليشمل مواقع قيادية على المستويين العربي والدولي.

 تعرض خلال ستينيات القرن العشرين للملاحقة والاعتقال بسبب مواقفه المناهضة للسلطة، ومشاركته في قيادة الحراك المعارض. وتميّز بخطه النقدي داخل الحزب، مدافعاً عن نهج معارض للسلطة لا يهادن ولا يساوم، لم ينكفئ أمام القمع، بل واجهه بصلابة سياسية وثقافية عززت حضوره بين المناضلين والمثقفين.

 برز دوره في تلك المرحلة في رسم سياسات الحزب الإعلامية والثقافية، وأسهم في ترسيخ مواقفه الوطنية، خصوصاً فيما يتعلق بالتحالفات، وانقلاب 8 شباط الدموي، والنهج القومي الإقصائي الذي تبنّاه النظام الدكتاتوري.

في المؤتمر الثالث للحزب عام 1976، انتُخب مرشحاً لعضوية اللجنة المركزية، ثم أصبح عضواً كاملاً في المؤتمر الرابع العام 1985، وانتُخب لاحقاً عضواً في المكتب السياسي، حيث تولّى مسؤوليات أساسية، من بينها العلاقات الوطنية والخارجية، وتنظيم العمل النقابي على صعيد الحراك الثقافي والإعلامي، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الانضباط الحزبي وتحديث أدوات النضال، في ظل تصاعد القمع البعثي وتضييق العمل السياسي.

في عام 1979، وبعد الهجمة الفاشية التي شنّها النظام على الحزب، كُلّف بتمثيل الحزب خارج العراق وبشكل خاص في لبنان وسوريا. وهناك، اضطلع بدور استثنائي في إعادة تنظيم صفوف الرفاق الذين اضطرتهم الملاحقات الأمنية إلى مغادرة العراق بوسائل شاقة وخطرة. أشرف على إعادة هيكلة العمل الحزبي، وتنظيم خطوط الاتصال، وتأمين الإيواء، كما ساهم في صياغة وجهة جديدة للملمة صفوف الحزب، بعد الضربة القاسية التي تلقاها من النظام الدكتاتوري.

كان له دور حاسم في الحفاظ على استقلالية القرار الحزبي في فترات بالغة الحساسية، خصوصاً خلال تجربة "الجبهة الوطنية" وما تلاها، حين رفض التنازل عن المشروع التحرري لليسار مقابل تحالفات شكلية أو مصالح آنية.

 في ثمانينيات القرن الماضي، كان من أوائل الرافضين للحرب العراقية–الإيرانية، معتبراً إياها حرباً عبثية لا مصلحة وطنية فيها. فضح الخطابات الزائفة التي روّجت للحرب تحت شعار "الدفاع عن الوطن"، وكشف زيف المشروع البعثي الذي استغل هذا الشعار لتبرير الاستبداد والتدمير، محذراً من انزلاق بعض اليساريين خلف هذا الخطاب.

 رفض أيضاً انخراط الحزب في مؤتمرات المعارضة التي رعَتها الولايات المتحدة، مثل مؤتمري لندن وصلاح الدين، معتبراً إياها أدوات لإعادة تشكيل المشهد السياسي على أسس طائفية وعرقية. وكان من بين القياديين الذين طالبوا الحزب بالانسحاب من المؤتمر الوطني العراقي، وقد دافع بشدة عن استقلالية القرار الوطني، ورفض الزج بالحزب في معادلات الخارج، مؤمناً أن التغيير الجذري يجب أن يُصنع من داخل المجتمع العراقي، لا في غرف الفنادق وبرامج العواصم.

وفي المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي العراقي عام 1993، كان لفخري كريم دور محوري في الدعوة إلى تجديد الحزب فكرياً وسياسياً وتنظيمياً. ورغم مناشدات واسعة من الرفاق، لم يرشّح نفسه لقيادة الحزب، متمسكاً بقناعته بضرورة التغيير في هيكل القيادة. وأكد حينها أنه سيواصل نشاطه كـشيوعي ليس بالضرورة من موقعه كقيادي، مبدياً استعداده لدعم الحزب سياسياً وفكرياً وفي ميدان العلاقات الذي يبرع فيه، وبادر في تقديم المشورة وإبداء الرأي وفي كل ما طلب منه، من موقعه كشيوعي حامل رسالة التغيير والتنوير.

تميّزت مساهماته السياسية بوضوح الموقف، والقدرة على الربط بين النضال اليومي والرؤية الاستراتيجية للصراع الاجتماعي–السياسي. ظلّ منحازاً إلى الفقراء والكادحين، لا تغريه المواقع، ولا تُربكه التحولات، واضعاً في جوهر مشروعه السياسي، فكرة العدالة الاجتماعية لا كشعار فقط، بل كمرتكز نضالي لا يُساوَم عليه.

نصيرا في الجبال.. قلم وبندقية

التحق فخري كريم بصفوف قوات الأنصار في كردستان، حيث كان جزءاً من القيادة السياسية، وتولّى مسؤولية الإشراف على إعلام الحزب المركزي، بما في ذلك إذاعة صوت الشعب العراقي والجريدة المركزية. عمل على تطوير الخطاب الإعلامي للحزب، وجعل من الإذاعة صوتاً مقاوِماً يخاطب الداخل، ومن الجريدة أداةً للتثقيف والنقاش السياسي والفكري بين المناضلين.

جمع في تلك المرحلة بين العمل المسلّح والإعلام الحزبي، وأسهم في صياغة التوجهات السياسية للأنصار، رابطاً بين الميدان والقيادة، وبين الكلمة والبندقية في مشروع تحرري واحد.

النهج: مشروع فكري في مواجهة الانغلاق العقائدي

 في النصف الاول من السبعينيات، بعد إعلان (الجبهة الوطنية) وتحول الحزب إلى النشاط العلني طرح فكرة إصدار مجلة فكرية - نقدية، للأحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان العربية مستقلة تُعنى بإعادة قراءة الفكر الاشتراكي وتجديده بعيدا عن الصنمية والتقديس والجمود العقائدي والانغلاق الحزبي. لكن مشروعه لم يلق القبول من قبل قيادة الحزب وقد طرح فكرة "النهج" أول مرة وهو لا يزال في بغداد، بوصفها منصة فكرية تبحث في أزمة الاشتراكية وموقع اليسار في عالم متغيّر، وتستعيد مركزية الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخطاب التقدمي.

 لكن تصاعد القمع الدموي ضد الشيوعيين، وحملة الإعدامات والاعتقالات التي ضربت الحزب في الوطن، دفعت المشروع إلى التجميد المؤقت. وبعد اضطرار فخري كريم إلى مغادرة العراق، والتنقّل بين بيوت الأمان ثم الاستقرار في سوريا، أعاد إحياء الفكرة من المنفى. ففي دمشق، برزت الحاجة إلى منبر فكري نقدي يعبّر عن صوت يساري جديد، يفتح النقاش حول التجربة، ويؤسس لمسار مختلف. وهكذا صدرت مجلة "النهج"، لتصبح واحدة من أبرز المنابر الفكرية العربية في عقد الثمانينيات، بمقارباتها الجذرية، وانفتاحها على تيارات فكرية وفلسفية متعددة، من دون أن تتخلى عن انحيازها الطبقي والاجتماعي.

 لم تكن "النهج" مجرد مجلة حزبية أو نظرية، بل كانت مختبراً فكرياً لتحولات اليسار في البلدان العربية، ومنصة لتفكيك الاستبداد، وكشف مأزق السلطويات "التقدمية"، واستعادة دور الثقافة والفكر كسلطة مضادة.

وقد تولّى فخري كريم إدارتها التحريرية والفكرية، وأسهم من خلالها في بناء شبكة من الحوارات بين المثقفين العرب والمنفيين والناشطين، وجعل من المنفى منصة لفكرٍ لا يهادن، ولا يكتفي بالتشخيص، بل يسعى إلى تأسيس أفق تغييري جديد، يمهّد لاحقاً لما صار يُعرف بمشروع "المدى". 

المنفى وبناء مشروع "المدى": من الحلم الثقافي إلى الفضاء العام

في أعقاب صدور مجلة "النهج" ونجاح المشروع التنويري، توسع أفق مشروعه، منتقلاً من فكرة المجلة الفكرية إلى مؤسسة ثقافية متكاملة تجمع بين الإعلام والنشر والعمل المدني. هكذا وُلدت نواة مشروع "المدى"، بوصفه امتداداً عضوياً لتجربة "النهج"، ولكن بأدوات أوسع وأفق أكثر اتساعاً.

 لم تكن "المدى" مجرد دار نشر أو مؤسسة ثقافية، بل رؤية ثقافية متكاملة، انطلقت من قناعة راسخة بأن الديمقراطية لا تُبنى من السياسة وحدها، بل من الثقافة والوعي، وبأن مواجهة الطائفية والاستبداد لا تتم إلا عبر إشاعة قيم العقل والنقد والتنوير. وقد تبنّت "المدى" هذا المسار، من خلال نشر مئات الكتب في الفكر والفلسفة والتاريخ والرواية والعلوم الإنسانية،

  بعد سقوط الديكتاتورية عام 2003، عاد فخري كريم إلى العراق حاملاً مشروع "المدى"، لا باعتباره مشروعا تجارياً، بل منبراً لثقافة البديل، واتجاها ديمقراطيا – اجتماعيا في الحركة الثقافية، وفضاء تنويريا، وفكرا تجديديا، ومؤسسة مستقلة للوعي والديمقراطية. أسّس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، وأصدر في حينها جريدة المدى التي حظيت بأوسع ما تحظى به صحيفة محلية وعربية من اهتمام عالمي، إعلامي وسياسي منذ انطلاقتها، ومن اللافت أن صحيفة المدى دشنت أعدادها الأولى بنشر فضيحة (كوبونات النفط)  التي أحدثت صدمة في وعي الرأي العام العالمي، تولت الأمم المتحدة متابعتها بتشكيل لجنة تحقيق دولية، انكشفت من خلال ملاحظاتها خيوط الفساد الدولي، وتورط آلاف الشركات والأحزاب والمسؤولين الكبار في العالم، وواصلت المدى نشر ملفات فساد عدة للتصدي لهذه الآفة وغيرها من مظاهر الفساد الإداري والمالي والتعديات على المواطنين.

وأطلق من خلال المؤسسة سلسلة معارض للكتاب، وملتقيات فكرية سنوية، ومبادرات مدنية للحوار، أبرزها معارض الكتاب في أربيل والسليمانية وبغداد والبصرة، الذي جمع مفكرين وكتاباً من العراق والمنطقة والعالم في نقاشات حول الحداثة، والتعددية، والدولة المدنية، وسلسة مكتبات المدى في بغداد والمحافظات.

وفي بغداد، أطلقت (المدى) سلسلة نشاطات لإعادة الحياة للثقافة المقموعة والمنفية، وتحويلها إلى أدوات للنهوض بالعراق الجديد، اتخذت الفعاليات طابع تحدٍ للإرهاب وكسر لسطوته، وجذب أوساط أوسع للنشاط الثقافي والفني، وينفرد هذا النشاط باهتمامه بالإبداع والمبدعين وتكريمهم والاحتفاء بهم.

كما أسس مشروع الكتاب المجاني - مشروع كتاب مع جريدة حيث أطلقت الدار في سنواتها الأولى العديد من المبادرات لتفعيل الحياة الثقافية، والارتقاء بها وبدور المثقفين والمبدعين والعمل على اعتماد صيغ جديدة لتوسيع دائرة القراءة وتوزيع الكتاب. وفي هذا السياق، بادرت (المدى) لنشر كتاب تنويري يوزع مجانا شهريا مع صحف عربية عدة تحت شعار (كتاب مع جريدة) ومن بين الصحف العربية التي شاركت في المشروع:

• الحياة السعودية

• القبس الكويتية

• السفير اللبنانية

• الاتحاد الإماراتية

• الثورة السورية

• الايام البحرينية

• القاهرة المصرية

• جريدة المدى العراقية

• الاتحاد العراقية

لم يتوقف المشروع عند النشر والصحافة، بل تطوّر إلى بنية مؤسسية مستقلة، حافظت على استقلاليتها رغم كل التحديات. وقد واجه مشروع "المدى" ضغوطات كثيرة، لكنه ظل، بفضل الرؤية التي قادها فخري كريم، فضاءً حراً، يحافظ على شروط المهنية والتنوير في بلد تتهدّده قوى الظلام والفساد والمحاصصة.

داعم فاعل للحراك المدني

شكّل فخري كريم أحد أبرز الأصوات الداعمة للحراك المدني في العراق، منذ انطلاقة الاحتجاجات الأولى عام 2011، حيث سخّر منابر "المدى" لتغطية أصوات المتظاهرين، وفضح القمع، وتوثيق المطالب الشعبية. لم يتعامل مع الاحتجاج كحدث عابر، بل كتحوّل اجتماعي عميق، ورأى فيه تعبيراً صادقاً عن وعي جديد يتكوّن خارج الأطر التقليدية.

 لعبت "المدى"، بإشرافه، دوراً فاعلاً في إطلاق حملات ضد الظلامية والانغلاق والتطرف، أبرزها حملة "بغداد لن تكون قندهار"، التي رفعت صوت المدينة في وجه محاولات فرض النمط المتشدد على فضائها العام. وفي السياق ذاته، عمل على إعادة الاعتبار للنخب الثقافية والفكرية، من خلال دعم الملتقيات والحوارات الفكرية ومعارض الكتاب، بوصفها أدوات أساسية لمقاومة الرداءة والتجهيل الممنهج.

آمن فخري كريم بالحركات الاجتماعية بوصفها طاقة التغيير الأكثر حيوية، ورفض خطاب "اليأس المبرمج" الذي تسوّقه المنظومة الحاكمة لترسيخ الأمر الواقع. وكان يؤكد أن التغيير ليس مستحيلاً، بل يتطلّب وعياً ناضجاً، وإرادة جماعية، وتراكماً نضالياً طويل النفس.

 في انتفاضة تشرين 2019، كان من أوائل الداعمين لها، وواكبها عبر إصدار ملحق يومي لجريدة "المدى" حمل عنوان "الاحتجاج"، كرّسه بالكامل لتوثيق الحركة، وأصوات ساحاتها، وشهدائها، ومطالبها.

كما ساهم في تأسيس ودعم مبادرات مدنية وثقافية فاعلة، من بينها الجمعية الثقافية التي تعنى بتنمية الثقافة ودعم المثقفين، إلى جانب جمعية الناشرين والكتبيين في العراق، إيماناً منه بأن النضال المدني لا ينفصل عن مشروع التنوير الشامل، وأن بناء وعي جديد هو شرط كل تغيير حقيقي.

كذلك مبادرة صندوق التنمية الثقافية التي رعت مئات المثقفين وخصصت لهم رواتب شهرية مجزية لإدامة مشاريعهم واستمرار عطاءهم في المجال الثقافي والإبداعي.

والى جانب هذا الصندوق تدعم المؤسسة الفرق المسرحية والطاقات الفنية الشابة، عبر تبنيها أعمالهم، وتضمينها في المهرجانات السنوية التي تقيمها المؤسسة، أو من خلال إقامة نشاطات خاصة بها، وقد تبنت المؤسسة عناصر شابة متميزة ومواهب واعدة في الموسيقى، والفن التشكيلي والنحت، حيث تتكفل برعايتهم مادياً ومعنوياً حتى مرحلة إنهاء الدراسة الجامعية.

في التأليف والكتابة: فكرٌ منحاز للحرية والعدالة

لم يكن فخري كريم مجرّد ناشر أو ناقل لأفكار الآخرين، بل كان كاتباً ملتزماً وصاحب مشروع ثقافي - سياسي منحاز للحرية والعدالة الاجتماعية. كتب مئات المقالات في الفكر السياسي والثقافي، تناولت تحوّلات العراق، ونقدت الاستبداد والطائفية، وسلطت الضوء على شخصيات ديمقراطية ويسارية كان لها أثر في مسار التنوير والتحرّر.

أدار تحرير صحيفة "طريق الشعب" في لحظات مفصلية من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، وأسهم في بلورة خطابها التحريري والنقدي، بوصفها منبراً سياسياً وثقافياً في آنٍ معاً.

من أبرز مساهماته الفكرية، في مطلع شبابه، كتابته لمقدمة الطبعة العربية لكتاب (تحت أعواد المشانق) للمناضل "يوليوس فوتشيك"، حيث قدّم قراءة مؤثرة في معنى الصمود في زنازين الفاشية، وبسالة المناضل وعدم الرضوخ الشهادة والموقف الثوري.

كرّس فخري كريم جانباً مهماً من جهده الفكري للكتابة والتأليف، بوصفها امتداداً لمشروعه السياسي والثقافي. فإلى جانب مقالاته الافتتاحية ومداخلاته الفكرية، أصدر مجموعة من الكتب التحليلية والنقدية تناول فيها قضايا العراق والمنطقة من زوايا سياسية واجتماعية وثقافية، منتصراً لقيم الديمقراطية والمواطنة، ومتفككاً لبُنى الاستبداد والطائفية والفساد.

من أبرز كتبه:

• ملامح زمن

• دولة اللادولة

• ثلاثية الفساد، الإرهاب، الطائفية

• لكي لا أستقيل من هذا الوطن

• من دولة الاستبداد إلى استبداد الدولة

• الإخوان: الحقيقة والقناع

• تقاسيم على وتر الديمقراطية

تشكل هذه الكتب مراجع مهمة لفهم أزمة الدولة والهوية والعدالة في العراق، وتُجسّد رؤية مفكر يساري ديمقراطي لم يهادن في الموقف، ولا ساوم في المبادئ.

بعد 2003 مستشار سياسي وناشر عقلاني في زمن التمزق

 بعد سقوط النظام الديكتاتوري في 2003، لم يسعَ فخري كريم إلى موقع سلطوي، بل اختار أن يكون فاعلاً ثقافيا ومنتجاً للفكر المعاصر داخل المشهد الجديد. عُيّن كبير مستشاري رئيس الجمهورية، لم يأخذ راتباً مقابل الخدمة التي قدمها، بل استمر كما أسس لحياته معتمدا على نفسه، عصامياً، كريماً معطاءً فشكّل من موقعه هذا جسراً للحوار بين القوى السياسية، وساهم في تقديم مقترحات لتجاوز الأزمات، بما يمتلكه من خبرة سياسية، وعمق فكري، وعلاقات واسعة.

محاولات الاغتيال بين استهداف الجسد وقتل الرسالة

لم تكن سيرة فخري كريم خالية من المخاطر، فقد تعرّض خلال مسيرته النضالية والفكرية إلى سلسلة من محاولات الاغتيال، الجسدية والمعنوية، استهدفت وجوده ومشروعه، لكنها لم تنل من قناعاته ولا من التزامه العميق بقضايا الحرية والعدالة والديمقراطية.

في عام 1969، وأثناء عودته سرّاً إلى العراق قادمًا من الخارج، تعرّضت السيارة التي كانت تقله إلى قصف جوي مباشر، نجا منه بأعجوبة، في واحدة من أوائل المحاولات لاغتياله على الأرض العراقية.

وفي الثامن والعشرين من تموز عام 1982، وبينما كان في بيروت، تعرّض لمحاولة اغتيال غادرة عند الساعة الواحدة ظهراً، حين أطلقت عناصر مرتبطة بأجهزة النظام البعثي النار عليه داخل سيارته. نجا من الموت، لكن مرافقه الشخصي الشهيد (أبو جنان) سقط في تلك المحاولة، فيما أُصيب أحد أصدقائه بجروح بليغة.

وبعد عودته إلى العراق عام 2003، والشروع في إصدار جريدة المدى وإطلاق مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال نجا منها، منها على طريق الحلة بغداد، حيث أمطر الإرهابيون سيارته برشقات من الرصاص.

وفي حادثة لافتة، تعرّض مكتبه في بغداد إلى قصف صاروخي، أُصيب فيه مدير إدارة جريدة المدى بجروح، وتم القصف في نفس اليوم والساعة من محاولة اغتياله في بيروت، في الثامن والعشرين من تموز، الساعة الواحدة ظهرًا، في تكرار غريب لزمن الاستهداف وذاكرته.

 أما أخر المحاولات، فكانت في الثاني والعشرين من شباط عام 2024، بعد خروجه من معرض العراق الدولي للكتاب، حيث تعرّض لكمين مسلح في منطقة القادسية غرب بغداد، أثناء عودته إلى منزله برفقة زوجته الدكتورة غادة العاملي. أمطرته سيارة كامنة بوابل من الرصاص، لكنه نجا بأعجوبة.

ولم تقتصر محاولات الاغتيال على السلاح والرصاص، بل امتدّت إلى محاولات الاغتيال المعنوي من خلال حملات التشويه والتحريض الإعلامي، التي استهدفته بسبب مواقفه المستقلة، ونجاحه في بناء منابر إعلامية وثقافية حرّة، وتصديه للخراب السياسي والفكري، ووقوفه بوجه قوى الطغيان والاستبداد.

فخري كريم لم يكن يوماً متفرجاً أو محايداً، بل كان في جوهر المعركة ضد الدكتاتورية والتسلط والتفرد بالسلطة، وضد الظلامية والتخلف والعنف السياسي. خاض معركة متواصلة من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وحرية الفكر، والثقافة التقدمية. ومن هذا الموقع الصريح، لم يكن مستغرباً أن يتحوّل إلى هدف دائم للأنظمة القمعية والمليشيات الطائفية وأدوات التضليل.

لكن كل تلك المحاولات، بدل أن تردعه، زادته تمسكاً بمشروعه التحرري، وإيماناً بأن الفكرة الواضحة والموقف الجريء والكلمة الحرة قادرة على مواجهة الرصاص، متى ما صدرت عن ضمير حي وانحياز صادق إلى الناس والوطن.

 التكريم والجوائز

حظي بتكريمات عالية تعكس تقدير الأوساط الثقافية والسياسية لدوره، وهناك إشادات مهمة بدوره الثقافي، وقياداته للحراك الثقافي التنويري، كما ونال (وسام البارزاني) تقديراً لجهوده في تعزيز الحوار بين الفرقاء الكرد، ودوره في الوساطة لنزع فتيل الاقتتال الداخلي، من خلال لقاءات محورية شملت صلاح الدين، ومقر البارزاني، ومقر جلال طالباني، بصفته شخصية موثوقة من الطرفين.

كما مُنح (جائزة شخصية الإعلام العربية لعام 2025)، التي أعلنت عنها قمة الإعلام العربي في دبي، تكريماً لمسيرته الممتدة في الدفاع عن حرية الكلمة، ودوره الريادي في تأسيس مؤسسة "المدى" بوصفها منصة ثقافية - إعلامية مستقلة، ومجالاً لصوت التعددية والانفتاح.

موقعه الرمزي اليوم: ضميرٌ نقدي واستمرار في العطاء

جمع فخري بين الفعل الثقافي والرؤية السياسية، وبين الوفاء لجذوره اليسارية والانفتاح على آفاق المستقبل. ظلّ منحازاً إلى العقل النقدي، والحرية، والمواطنة، مناهضاً للاستبداد بكلّ صوره، سواء كان عسكرياً أو طائفياً أو دينياً مغلّفاً بشعارات الحداثة.

رأى في الدولة المدنية الديمقراطية خياراً لا بديلاً له، وفي العدالة الاجتماعية ركيزةً لأي استقرار حقيقي، وفي الثقافة سلاحاً ضد التطرّف والفساد والانحطاط العام. لم تغره المناصب، ولا أَسَرَه الخطاب الشعبوي، بل اختار على الدوام أن يكون شاهداً نقدياً من موقع المسؤولية الوطنية.

يمثّل الإرث الفكري لفخري كريم أحد أعمدة حضوره في الحياة العامة العراقية، لا بوصفه صاحب قلم أو ناشراً فقط، بل كمفكّر عضوي ظلّ وفياً لقضايا التقدّم والعدالة، في كل محطة من محطات مسيرته.

ورغم اشتداد العواصف، بقي صوته حاضراً، يقترح، يُحاجج، ويُجادل من موقع اليسار الديمقراطي، ساعياً نحو دولة مواطنة لا دولة طوائف، وديمقراطية تُبنى على العدالة لا المحاصصة.

رغم كل التحولات، والصدمات التي عصفت بالمشهد العراقي، ظل فخري كريم حاضراً، لا من موقع السلطة أو الادّعاء، بل كـضمير نقدي وركن من أركان الوعي الوطني. يُنظر إليه اليوم بوصفه أحد أهم وجوه الجيل المؤسِّس للمعارضة الديمقراطية العراقية، وأحد القلائل الذين حافظوا على استقلال الموقف، مناهضين للاستبداد القديم والجديد معاً، دون أن يسقطوا في أوهام اللحظة أو مغريات الاصطفاف.

رمزيته لا تستمدّ من موقع رسمي أو امتياز، بل من رصانة فكر، ووضوح موقف، ومسار طويل لم ينكسر تحت ضغط القمع أو غواية التكيّف. وفي زمن الالتباس، ما زال صوته مطلوباً عند كل مفترق، لا ليقدّم الوصايا، بل ليعيد التذكير بما هو ثابت: أن لا ديمقراطية من دون عدالة، ولا إصلاح من دون استقلالية القرار الوطني.

في هذه السيرة، لا نستعرض محطات حياة شخصية سياسية وثقافية فحسب، بل نقف أمام تجربة مركّبة لرجلٍ جمع بين الكفاح السياسي، والعمل الفكري، والنشاط المدني، وظلّ وفيًّا لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، حتى وهو يواجه الاستبداد بأشكاله المتعددة، ويتنقل بين ساحات النضال والمنافي، وساحات الفكر والصحافة.

إنها سيرة فخري كريم كما عاشها وكما كافح من أجلها، لا كما أراد الخصوم أن يختزلوها، ولا كما حاول أن يصوغها المترددون أو المتواطئون مع زمن الرداءة. سيرةُ رجلٍ لم يبحث عن موقعٍ في السلطة، بل عن موقعٍ في الضمير العام. رجلٍ واجه الطغيان بالسلاح يومًا، وبالكلمة طيلة العمر، وحافظ على بوصلته منحازة للفقراء، وللثقافة التقدمية، ولحق الإنسان في وطنٍ لا تحكمه الطوائف ولا تقسمه الولاءات.

هذه السيرة ليست فقط وثيقة شخصية، بل شهادة على زمنٍ عراقي طويل، مثقلٍ بالصراع والخسارات، لكنها أيضاً شهادة على قدرة الإنسان، حين يختار موقعه عن وعي، ويترك أثراً لا يُمحى.