لأول مرة، عندما تقرأ خارطة الفئات والجماعات والأحزاب التي شكلت تيارات مدنية بهويات ذاتية خارج منظومة سلطة الأحزاب الدينية، ودخلت مغامرة الانتخابات وهي تعرف حقيقتها وحجمها وإمكاناتها، تشعر أن الشعب بدأ يعي مصائبه. هؤلاء هم عصارة الحداثة في هذا المجتمع، وسيتسع وجودهم وتتعدد هوياتهم ومناطقهم، ولذلك يستحقون منا تحية بعرض لافتة ساحة التحرير.
هذه المرة الأولى التي يشعر المواطن أن في المجتمع العراقي فئات دخلت الانتخابات بقواها الذاتية، دون أن تكون تابعة لجهة غير قناعاتها باستقلاليتها وصواب رؤيتها. شخصيًا أوجه مليون تحية لكل هؤلاء الذين استعملوا حقهم كمواطنين ودخلوا الانتخابات بالرغم من قناعتهم أنهم لن يفوزوا بمقاعد كثيرة. التيار المدني، البديل، الفاو زاخو، والمستقلون والأفراد وغيرهم (يؤسفني لم أحفظ أسماء قوائمهم). وإذا أضفنا لهم المقاطعون، فسنجد أن ثلثي الشعب العراقي يرفض سياسة المحاصصة والمليشيات والفساد والمال المسروق والاستئثار بالمناصب وتعميم الأوهام في شخصيات لا تفقه من العلم السياسي والاقتصادي والفلسفي والاجتماعي والثقافي شيئًا. لقد ثبت فشلها خلال عشرين سنة ونيف، وليس بمقدورها أن تؤلف خطابًا متماسكًا، فكل مفردات خطابها تقوم على تملك السلاح والعشيرة والمال.
هذه قراءة أولية لطبيعة التركيبة الاجتماعية العراقية الجديدة، التي عملت الأحزاب الإسلامية على تنشئتها نتيجة استئثارها بالسلطة والوظائف والامتيازات، وجعلها فئات ثانوية ومهمشة، ويُضحك عليها دائمًا بمهرجانات وفعاليات مسيسة. إن وجود هذه الفئات من التأصيل العرقي والوطني أكثر بلاغة من هويات المتجنسين بعد 2003.
هذه القراءة تفتح للمتأمل أن ما يقال عنه انتصار في الانتخابات هو في الحقيقة هزيمة عميقة لهم، لم يدركوا أبعادها إلا في السنوات المقبلة، والأسباب ما عادت تُغطى بغربال. ففي أي مرحلة لاحقة سيزداد عدد الذين يخرجون عن سلطة عباءة الأحزاب الدينية والقومية والمناطقية. فالإنسان العراقي ولد منذ آلاف السنين حرًا، ومن غير المعقول تاريخيًا وبنيويًا أن يكون هذا الإنسان قطيعًا لسلطة تبيع الوهم بالتطور والحداثة والتغيير.
القراءة المتأنية للفئات الوطنية التي اتسع حضورها وتعددت مناطقها وهوياتها ولم تفز، إشارة جدلية عميقة على أن الصراع الاجتماعي قد اتخذ طريقة غير مألوفة في اصطفاف القوى الوطنية، التي ما عاد أحد يعتقد أنها ستنزل بقوائم وأفراد وجماعات عديدة بالأسماء والهويات. هذه نقلة فرزتها سياسة الإلغاء عبر دوراتها السابقة لهم، بل وقللت من أهمية الفوز للأحزاب نفسها. ومن يعتقد أن هذه الفئات كلها تؤمن بما يؤمن به الحزب الشيوعي العراقي فهو على خطأ.
انتفاضة تشرين لا يمثلها نواب خانوا أفكارها ("نريد وطن") وتنصلوا عن أهدافها ودخلوا تحت خيمة الارتزاق. وجود انتفاضة تشرين في هذا العدد الكبير من الكيانات التي لم تفز والتي نزلت بفقرها المادي هدفه شرف المواطنة العراقية وهوية البلاد مستقبلًا. هؤلاء هم الفائزون الحقيقيون، لأن لغة جديدة أصبحت قاموسًا يوميًا لأحاديثهم، تختلف عن لغة الخطابات والمهرجانات.
في كلمتي هذه، اكتفي بأن أوجه للقوى الوطنية تحية بلافتة عريضة تملأ ساحة التحرير بكل شعابها وشوارعها ومساحتها، وبرجها، وجسرها وفضائها ونصبها. وحدكم ستكونون عراق المستقبل.