اخر الاخبار

مرت سنوات طويلة من تاريخ حزبنا المجيد، وفيها من المحطات والمنعطفات الكثير الذي تمت روايته والحديث عنه بينما ظل أكثر منها ما لم تسعفنا ظروفنا القاهرة ان نرويها او ننقلها للأجيال الجديدة التي من حقها، ومن واجبنا نحن الشيوعيون القدامى، ان نرويها وبهدف نبيل هو استفادة الشباب الشيوعي من تجارب قادة الحزب الاماجد الذين اعطوا دروسا في الوطنية ونكران الذات والتضحية في سبيل وطن حلموا وناضلوا لأن يصبح يوما حرا وشعبه سعيدا وشامخا.

حينما حكمت المحكمة العرفية ببغداد باعدام قادتنا الأماجد سنة 1949، ومنهم الرفق الخالد يوسف سلمان (فهد)، وقبل سويعات من صباح 14 شباط اليوم المشؤوم لتنفيذ الحكم، طلب الرفيق فهد من سجانيه، وكآخر طلب له قبل ان يفارق دنياه، أن يختلي وحده باحد السجناء وهو رفيق شاب من المحكومين بالسجن وليس الاعدام، فلبوا طلبه ولم يرفضوا ولم يراقبوه (مشكورين!) .. فانفردا بزاوية من الزنزانة وطلب منه ان ينقل رسائل شفوية عبر باقي الرفاق السجناء إلى خارج السجن ثم انتزع من معصمه ساعة ووضعها في يد الرفيق الآخر وقال له: كل ما املك هو هذه الساعة ارجو ايصالها الى الرفاق حال الافراج عنك وهي امانة عندك ولكنها ملك للحزب، وكان يعرف الضائقة التي المت باعضاء الحزب وكوادره المتبقية خارج اسوار السجون والفترة الحالكة في كل البلاد، جراء الارهاب والملاحقة والاختفاء وقلة ذات اليد.

واعدم الرفيق فهد وظلت ساعته امانة لدى رفيقنا الشاب لحين الافراج عنه، وحال تم ذلك استطاع ان يتواصل مع رفاق يعرفهم معرفة جيدة وارتأى ان يسلم الامانة بعد وثوقه من انها ستصل إلى قيادة الحزب كذكرى عزيزة من رفيق عزيز شهيد، وذلك في عام 1953 وجرى تسليمها لي شخصيا، وكنت حينها اتولى في بغداد قيادة الحزب مع رفاق اخرين، ولكن كانت معها رسالة من ابو سلام (بهاء الدين نوري) يشرح فيها كل ما جرى في تلك الليلة أي قبل تنفيذ الحكم بساعات معدودات وربما يبدو أن الرفيق مصعب (اسمه الحركي او الصحيح لا اذكر) كان حتى لا يعرف القراءة والكتابة أو ليس ضليعا بهما حاله حال معظم أبناء العراق انذاك.

كنت، كما جميع رفاق الحزب ملاحقا ومختفيا مع عائلتي في بيوت بائسة مؤجرة موقتا في مدن اكتظ فيها الجواسيس والشرطة السرية، ناهيك عن انني وعائلتي كنا مهاجرين بين مدن العراق تلبية لمهمات الحزب.. وكانت ظروفنا قاسية ولم نكن نملك اي شيء، ناهيك عن ترف الاحتفاظ بحقائب او صناديق او خزانة ملابس لكي نضع فيها اشياءنا على قلتها.

كانت ساعة يد الرفيق فهد امتحانا لي ولعائلتي الصغيرة.. سلمتها إلى زوجتي الرفيقة ام سليم (سلام على روحها اذ توفيت في ايلول 2017) وقلت لها انها ليست شيئا عاديا انها في رقبتنا الى يوم تنجلي فيه الغمة عنا وعن الحزب والوطن ككل، فلنكن عند حسن ظن شهيدنا العزيز الرفيق فهد.. قالت لا تقلق انها اغلى من عيوني.. وبعدها انقطعت عن عائلتي وذهبت بمهمات حزبية اتنقل بين مدن العراق وكذا جرى للرفيقة ام سليم التي بدورها كانت تتولى مهمات حزبية شتى بين ايصال البريد الحربي والجريدة واخفاء العوائل الحزبية وزيارات السجون والتنقل من بغداد الى كوردستان، الى منفى بدرة وجصان ثم كركوك والموصل فبغداد، وكنت اعتقلت وحكم علي بالسجن الفعلي والمنفى لحين سقوط الملكية في ثورة تموز 1958 التي حررتني وعاودت الرجوع الى الحزب وللحياة الطبيعية ولو لحين. كانت الساعة ما زالت عند الرفيقة ام سليم.. ولكن في شباط 1963 جرت الأمور بمنحى آخر اشد خطورة من سنوات ما قبل ثورة تموز.. التحقت ام سليم بالجبل لاننا اضطررنا إلى اللجوء لحياة البيشمركة في كوردستان.. وكانت عائلتي قد كبر عددها ولم نكن نملك دارا او معاشا سوى ما يوفره الحزب لنا. كانت ام سليم تصارع الحياة وتتولى تربية أولادها وكنت لفترات طويلة بعيدا عنهم.. وكانت الحياة بالنسبة لنا عبارة عن تحد للفاشية والظلم، وكانت قليلة تلك السنوات التي نعمنا فيها معاً ببعض الهدوء ولكن دون طمأنينة وبالفعل جرت الاحداث متسارعة في عراق الانقلابات والحروب والاضطهاد الطبقي والقومي، ولم نكن نملك سوى الاختفاء واللجوء للجبل والمنفى والهجرة الخارج وهكذا دواليك. كانت ام سليم طيلة السنوات هذه ما زالت تحتفظ بساعة الرفيق فهد كأعز امانة واعز من اشيائها حقا، لم تتصرف بها ولم تضعها ولم تأتمنها عند احد.. حتى أن بعض ضعاف النفوس دنت ايديهم لسرقة بعض من مال شحيح لها ولكنهم لم يصلوا الى ساعة معصم فهد.

لم تكن الرفيقة ام سليم واثقة من الظروف واوضاع الحزب والرفاق اينما حلت، ولم تستطع أن تأتمن (الساعة) لدى آخرين ليس لعدم الثقة بهم مطلقا، بل لانها خبرت سنوات طويلة من انعدام الاستقرار لجميع الرفاق دون استثناء فرأت أن تبقى لديها (ولبعض السنوات لدى ابنتنا بيان سلام على روحها حيث توفيت في ايلول 2019).

أكثر من سبعة عقود مرت منذ ان انتزع الرفيق فهد ساعته من معصمه قبل اعدامه، واليوم حين استرجع ذكراه وذكرى كل تلك السنين العجاف بمرها وحلوها ارجو ان يأخذ الرفاق الأمانة مني ولنستذكر معاً (ساعة فهد) ومغزى هذه الآلة الصغيرة التي زينت يد رفيقنا الخالد فهد بالرجولة والآباء ونكران الذات والوطنية والأممية الحقة، ولكن قبل كل شيء ما صنعته يدا فهد من حزب شيوعي جبار لا يلين ولا يستسلم ولا يهادن على مبادئه.

انها (الساعة الصغيرة حجما، الكبيرة معنى ومغزى.. ففيها كان يتطلع فهد الى وقته وينظم مواعيده وينسق مع رفاقه بدايات عمل اكبر حزب سياسي في تاريخ العراق المعاصر. كان ضبط التوقيت بالنسبة الى الرفاق في حياة الحزب اولوية قصوى في بلد لم يزل الناس فيه لا يعرفون معنى الدقة والانضباط بمفهومهما الحديث حيث كان عصر الآلة والانتاج قد سار مراحل عبر قرون بينما كان العراق لا يزال بلدا زراعيا اغلبه، وحرفيا في بعضه. كان لدى فهد رؤية متقدمة لما سيكون عليه الحزب وبناؤه بكل تفاصيله.. وهو التلميذ النجيب للقائد الشيوعي الأممي غيورغي ديمتروف الذي خبر بناء حزب سري شيوعي يقارع به الرجعية والرأسمالية والفاشية وينتصر في معاركه ضدها جميعا. وصار لدى فهد اداة يقود بها نضال العمال والفلاحين وباقي الكادحين، الحزب الشيوعي العراقي الذي ضم بين جنباته كل مكونات شعبنا العرقية والقومية والدينية دون استثناء في هارموني قل نظيره حتى في تاريخ العالم وليومنا هذا ما يزال يعمل بدقة وانضباط كبيرين.. فتذكروا معي ايها الرفاق تلك الايام العصيبة التي كان فهد ينظر في معصمه حين كان موعد اجتماع قد بدأ دون تأخير.. أو حين كان ينظم عمل اللقاءات وتسليم البريد الحربي وشراء مواد لطباعة الجريدة وادبيات الحزب، او ارسال وفد الى احد الأحزاب الصديقة لأجل التنسيق حول عمل النقابات والاتحادات وغيرها مئات الاحداث الأخرى التي عمل الحزب تحت قيادته ان تكون بدقة، وانضباط الة صغيرة هي ساعة معصم الرفيق الشيوعي الشهيد يوسف سلمان يوسف.

ليست الأمانة فقط أن تحتفظ بشيء مهما تكابد في الحفاظ عليه وتسليمه بعد حين. ولكن الأمانة ان نأخذ العبرة ممّا حمل ذلك الشيء من مغزى لا يقدر بثمن أو قيمة.. بل واستنباط دروس من تاريخ ذلك الشيء واشخاص ارتبطت حياتهم به واثرت فيهم وفي مصيرهم..

سلام عليك فهد.. رفيقي ومعلمي وقائد دربي، وكلي أمل وثقة ان تكون ساعتك نبراسا ومقياسا لنضال حزبنا الكبير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اربیل | نهاية تشرين الثاني 2021

عرض مقالات: