اخر الاخبار

تظل الأحياء الشعبية في طبيعة حياتها وما جرى في أزقتها الفقيرة من نشاطات يومية بريئة أكثر رسوخا في الذاكرة لمن عاشها وشهد بساطتها ولمس عن قرب طيبة العلاقات بين مجتمعها ، فما يميز الأحياء الشعبية عن غيرها من الأحياء العصرية هو بساطة العيش بدون تكلف وكذلك في مظاهر الوئام والانسجام التي تجمع بين عائلاتها ذلك انها في العادة تعيش ظروف اقتصادية واجتماعية متشابهة تكاد تغيب فيها الفوارق الطبقية ، كذلك روح الألفة والتآخي الظاهرة عليها من خلال تقارب بيوتاتها والتصاقها ببعضها البعض واكتظاظ أزقتها بالأطفال والصبيان الذين عادة ما يتخذون من هذه الازقة ميدانا للعب وممارسة نشاطهم اليومي ، ويفرض هذا التقارب والاجتماع اليومي المتكرر جملة من القيم من بينها التكافل الذي يظهر عليه سكان هذه الأحياء في المناسبات الاجتماعية حيث تراهم يفزعون في الافراح والاحزان للمشاركة والمساهمة حتى بالمال من أجل تذليل الصعاب على صاحب المناسبة ، كما ان كثافة التجمع البشري في هذه الاحياء يشجع على تواجد باعة المأكولات الشعبية في أزقتها وتواجد مقاهي الطرف التي تكون بمثابة مكان استقبال عام تلتقي فيها رجالات المحلة لتجاذب الحديث في شؤون حياتهم وحياة بلدهم والسهر فيها الى ساعات متأخرة من الليل ، ونتيجة لهذه الدورة اليومية من النشاط الانساني المتعدد الوجوه تبرز في كل حي شخصيات ذات كاريزما تفرض حضورها الاجتماعي من خلال ما تقدمه من أدوار استثنائية سواء في مجال السياسية او الثقافة او النشاطات الإنسانية الاخرى حيث تصبح هذه الشخصيات بمثابة ايقونات شعبية ومثال لشباب المحلة .

وما أسلفت ذكره عشته عن كثب في أعرق محلة شعبية عرفتها مدينة الديوانية تلك هي محلة “ الجديدة “ التي شهدت طفولتي وسنوات طويلة من عمري ، فهي محلة قديمة تضم كثافة سكانية عالية ولضيق ازقتها التي أشبه بشرايين متشابكة فأنها لم تشهد مرور سيارة فيها منذ نشأتها وظهورها محلة سكنية بحدود مسجلة ، وفي عقود مضت عاشت وشهدت هذه المحلة نشاطا سياسيا يساريا في مقارعة الأنظمة الدكتاتورية وتنظيم التظاهرات المناهضة لحكوماتها وأنجبت رجالا كبارا في مجال السياسة والثقافة وشخصيات شعبية كان لها دورا اجتماعيا مخلصا أسهمت في الحفاظ على سلوك شباب المحلة من الانحراف حيث ترعرعت ُوسط هذه الأزقة الصاخبة والأنماط البشرية المختلفة وشهدت ُ عن كثب الأدوار الانسانية التي لعبتها تلك الرجالات واكتسبت من خلالها الهيبة والسطوة على القرار الاجتماعي بدون تعسف او اذلال للآخر ومن بين تلك الرجالات التي ظلت عالقة في ذاكرتي هي الشخصية الشعبية “ صخيل ــ ابا سلام “ الذي يعد دكانه المثابة التي يلتقي عندها صبيان وشباب المحلة حيث فاق هذا الرجل في شعبيته وهيبته مختار المحلة وكبار وجهائها الى درجة انه كان يبت في الخصومات التي تحدث بين شبابها وكان قراره باتا وملزما لكل الاطراف المتخاصمة وكانت العوائل تحترم قراراته التي يتخذها في فض النزاعات بين اولادها ذلك ان هذه النزاعات لم تكن تصل الى مركز الشرطة انما تنتهي عند دكانه بسبب ان امهات المعتدى عليهم كن يصطحبن اولادهن ويشكين المعتدي عند أبي سلام الذي بدوره يحكم بما يراه نافعا للطرفين ولم يكن يتردد في توبيخ وتقريع الطرف المعتدي الذي كان يتقبل ذلك بكل احترام وصمت اكثر مما يقف بذلك الانصياع امام والده ، اتخذ هذا الرجل دور المربي والمراقب لسلوك شباب المحلة الذين كانوا في اخطر مرحلة من اعمار المراهقة وعرضة للانزلاق والانحراف فكان يتواصل معهم بالنصح والارشاد ويسعى كثيرا لحمايتهم من الانحراف والاختلاط بمن هو سيء من الناس فعندما اراد صبيان المحلة فتح مقرا لفريقهم في مقهى ضمن المحلة خشي عليهم الاختلاط بمن هو اكبر منهم سنا ًفقام بفتح بيت متروك عائد له مجاور لمحلة وقام بتجهيزه بأثاث بسيط ودعاهم الى اتخاذه مقر بدلا من المقهى ، كما عمل على تعزيز الثقة في الشباب فكان يترك بيدهم دكانه العامر بشتى المأكولات والفواكه التي يسيل لعاب الكثير أمامها ،  وبهذا الدور الاجتماعي والانساني الذي يوازي دور مؤسسة تربوية استطاع هذا الرجل ان يخلد في ذاكرة ابناء محلة “ الجديدة “ فقد ظل الجميع يتذكره بالخير ويدعون له بالرحمة  للدور الأبوي الذي قام به من اجل حمايتهم ورعايتهم .

هذه اطلالة عابرة على جانب من مشهد الحياة في المحلة الشعبية قبل ان تشهد الثورة العارمة من التحولات الاجتماعية والنهضة العمرانية التي أزاحت وغيرت الكثير من ملامح واخلاقيات وهوية الأحياء الشعبية.

عرض مقالات: