الأرض بما رحبت تضيق بنا فهي مجرد خمسة وسبعين متراً مربعاً أما الدربونة فهي حرة و مشتركة لنا وللاغراب والباعة والمتسولين وللكلاب والقطط والجرذان المتآلفة بصداقة غريبة معها. جيوبنا أعيت عن منحنا جواز مرور الى الفضاء الآدمي القريب المليء بالاسواق والمطاعم والمتاجر والالعاب والمولات ومراكز الصحة وفنون الحياة المعروضة والتي يطلبها الآخرون من ذوي الذخائر..

لنذهب معاً الى صاحب العرصة عسى ان يحتملنا صبره لشهرين آخرين و يؤجل مبالغ الإيجار..

 الصباح مريض بثقل الكآبة الموحشة اذ خلى هذا الشهر تماما من تجمع السكان لأي سبب واختفت اسراب التلاميذ الطائرة الى المدارس بالبهجة والجمال . أيكون قد مات جرس المدرسة ؟ هكذا يخيل لي أن الموت حولنا مثل لعبة شطرنج بين لاعبين احدهما محترف و آخر هاوٍ ، يلتذ الاول بطاقته القصوى فيعمد الى تقشير دفاعات خصمه وانتزاع حجراته ويصل به الى عراء أكيد فينتف ريش الملك بحركة كش لا يملك عنها لنفسه دفعاً.

جردتنا حماقات الزمن الموضوعية عن دفاعاتنا الوجودية ما ورثناه منها وما راكمناه من ريع السنين.

انقطع حوار الوجيه الداخلي حين انتهى الى سمعه طرق مركز على باب منزله ..

تنهد في قيامه يردد : اللهم اجعله خيراً.. وجد على بابه لجنة جباية أجور الكهرباء ترافقها سيارة شرطة.. القى التحية و حرّك يده اليمنى حركة استفهام عن سرّ هذه الزيارة. رد كبير الجباة التحية ببرود يماثل موقف الدائرة وإجراءاتها الخشنة بقطع الكهرباء منذ شهر .. أحس الوجيه وكأن كبير الجباة يريد ان يسحب البساط من تحت قدمي العرصة ويضع معرقلات اضافية في طريق عودة الكهرباء اليها. فتح عينيه بأوسع ما أمكنه حاقناً نظراته بغضب وحقد .وسرعان ما تراجعت عيناه عن هذه الحركة فقد اجبرتها حبات عرق تسللت من جبينه ووجهه لتملأ مآق عينيه ..فهو يحس بقوة الصيف هذا العام لكن لا يعلم ان درجة حرارة هذا اليوم تجاوزت الإحتمال الانساني المشار إليه في مقاسات الأمم.

أخفى كبير الجباة ضحكة هازئة و تكلّم بهدوء ساخر : حاج نحن قصدناك دون الآخرين لأنك وجيه المحلة ،و والد لمفقودين قاتلا في الدفاع عن الوطن،

 وكلامك مسموع بين سكان المنطقة.. قد أوصل شخص مجهول الى سيادة الوزير شكوى عرصاتكم عن انقطاع الكهرباء هذه المدة فأوعز لنا سيادته بإتصال هاتفي لمعالجة الموقف..

 استبشر محيا الرجل الكبير وردد في سره (يا الله يا مفرج الكرب )..

وأتم كبير الجباة: وعليه رأت دائرة الكهرباء انك ملزم بالتعاون معنا لتطبيق اجراءات ما قبل الحل. تعرف ان الاهالي مديونون للدائرة باجور الكهرباء لمدد تتراوح بين عام وعام ونصف سنعطيكم سبعة ايام لتسديد المبالغ المترتبة بذمتكم و بخلافه لا كهرباء لكم عندنا..

مضى أسبوع ثم آخر ثم شهر ..

و تعقيدات الأزمة العامة تتسارع نحو حرب كونية ضد الانسان في هذا المضمار الارضي الذي يضمر بين جناحيه حب الحياة فتنهال عليه اطنان النابالم و جمرات الملائكة والشياطين أجمعين.

تسلل الاهالي ناس تلو ناس من منازلهم في نهارات موحشة حاملين امتعة البقاء على رؤوسهم يبغون وجه الله الواسع ليلقوا تحت ظله اسباباً للبقاء.

يجلس الوجيه في باحة نزله الجديد مكرراً حواره المعتاد مع ذاته وهو يسألها: اووف يا ذاكرتي لماذا لا تسعفيني بإجابة شافية عن أسئلتي:

(أين قضيتُ هذه العشرين عاماً الأخيرة من عمري ..من هم جيراني ..ما اسم مدينتي ..ما أقرب نقطة دالة ..جامع ..مدرسة ..اسواق..؟؟) فتختصر الاجابات تردداتها

بـ (لاشيء، سوى الصحراء التي تجرف الذاكرة..لاشيء.. انه اللا شيء)..