القراءة النقدية
لا تأتي قصيدة «باب المدينة» للشاعر عبد السادة العلي بوصفها نصاً شعرياً فقط، بل بوصفها كياناً ذا روح نبضيّة تتحرك داخل ذاكرة المكان العراقي؛ ذاكرة تعيد تشكيل نفسها في كل سطر، وتستفيق من رمادها عبر صور تمتزج فيها الفطرة بالمعرفة، والحسّ الشعبي بالعمق الفلسفي. إنها قصيدة تنتمي إلى تلك المنطقة التي تحوّل الشعر فيها إلى نوع من التعبّد الداخلي؛ تمرين على البحث عن الحقيقة من خلال الانتقال بين الضوء والجرح، بين العدل والفقد، بين اليقين والخذلان.
أولاً: اللغة… حين تتحوّل المفردة إلى كائن حيّ 0
يمارس العلي في هذه القصيدة طقساً لغوياً يُحوّل الأشياء إلى ذوات ناطقة. الشمس ليست عنصراً فلكياً، إنها امرأة تنزع ثوب ضيائها. والغيم ليس كتلة عابرة، بل كائن يتشمّم خطوات الليل. هذه ليست استعارات تجميلية؛ إنها استعارات وجودية تنتمي إلى مدرسة الشعر الذي يكتب العالم من الداخل، لا من سطحه. إنّها لغة تُزاوج بين الحسّ الشعبي العراقي وعمق الرؤية الصوفية، فتبدو المفردات مأهولة بالأرواح، لا مجرد أصوات. هذه اللغة تمنح القصيدة بنية مُتحرّكة، تتنفس كل صورة، وتعيد بناء المعنى من خلال حركة الضوء والظلّ.
ثانياً: بنية النص… انسياب على هيئة سفر0 يتقدّم النص مثل قافلة:
تبدأ بالغيوم والأضواء والمياه والأشجار، ثم تنتقل بخطّ حادّ نحو التاريخ الروحي، ثم تعود لتتأمل حاضر الإنسان الممزق بين يقينه وضياعه 0 هذه الحركة تُشبه السفر في صحراء واسعة:
خطوط بعيدة، غبار خفيف، شمس عالية، ومن ثمّ ظهور وجه الحقيقة من بين ثنيات الأفق. إنّها بنية قائمة على تصعيد دلالي يجعل القارئ يشعر أنه يعبر طبقة بعد أخرى من الوعي، حتى يصل إلى قلب المأساة التي يتحدّث عنها
ثالثاً: الرمز… قراءة في البعد الأخلاقي
يلجأ الشاعر عبد السادة العلي إلى الرموز التاريخية والدينية لا بوصفها مواد جاهزة، بل بوصفها مرجعيات أخلاقية تتشكّل من جديد داخل السطر. فالضمير، اليقين، الشهادة، الهداية… ليست مفاهيم يمرّ عليها؛ إنها قيم روحية تتحوّل في النص إلى كائنات تقاوم الضياع. اللافت أنّ العلي لا يستحضر التاريخ كحنين أو نوستالجيا، بل كمعيار يُقاس به الحاضر. ومن هنا يأتي عنف السؤال:
«يا نجم الهداية… الدرب تيهناه؟»
إنه سؤال لا يتوجه للماضي؛ بل للإنسان المعاصر الذي يقف في منتصف السفينة بلا بوصلة.
رابعاً: الدلالة… الألم كمنظومة معرفة0
أكثر ما يميز «باب المدينة» هو ذلك التحويل الجمالي للألم.الألم عند العلي ليس ندبةً، ولا بكاءً على زمن انقضى؛ بل هو طاقة معرفية، طريق يتعرف فيه الإنسان على ذاته، وعلى قدرته على المقاومة. القصيدة تقول بصوت عميق: إن الحقيقة لا تولد إلا من اختبار العتمة. والنور لا يكتسب قيمته إلا حين يُهدَّد. وهذا ما يجعل «باب المدينة» قصيدة ليست عن الفقد، بل عن الإصرار.
خامساً: الموسيقى… سريان داخلي لا يحتاج إيقاعاً خارجياً
لا تعتمد القصيدة على بحور شعرية تقليدية، لكنها تمتلك إيقاعاً داخلياً نابعاً من:
• التكرار المدروس (رد… رد… يا… يا…)
• التوازي التركيبي
• الانفجارات الصوتية في المفردات العامية العراقية
وهذه العناصر تمنح النص نبضاً حيّاً، وكأنه يُتلى أكثر مما يُقرأ.
هكذا تتحقق الموسيقى كحسّ لا كقالب.
سادساً: الصورة المركزية… باب المدينة
العنوان هو «العصا الذهبية» للنص. الگَمرة ليست قمراً فقط، ولا دماً فقط. إنها لحظة التقاء النور بالجرح. تلك اللحظة التي يتكوّن عندها الوعي الأخلاقي، حين يختبر الإنسان معنى التضحية ومعنى العدالة. بهذا يتحوّل العنوان إلى بوابة لفهم القصيدة كلها:نور ينزف، ودم يضيء. استعارة للحقّ حين لا يجد طريقه إلا عبر الجرح.
سابعاً: القيمة الإنسانية للنص
في عمق هذه القصيدة، نكتشف أن الشاعر لا يكتب عن تاريخ معيّن أو شخصية معيّنة، بل يكتب عن قيم كونية:
النزاهة، الشجاعة، الوفاء، نقاء الضمير، وضرورة مقاومة الظلم مهما تغيّرت أشكاله. وهذا ما يجعل القصيدة، رغم انتمائها للبيئة العراقية، صالحة لكل قارئ عربي. إنها نص يذكّر بأن الإنسانية تقف دائماً في جهة واحدة:
جهة النور.
خلاصة القول
«باب المدينة» قصيدة متشبّعة بذاكرة الأرض العراقية، لكنها في الوقت نفسه قصيدة عن الإنسان في كل مكان. نص يلتحم فيه التاريخ بالضمير، والرمز بالواقع، والشعر بالحقيقة الأخلاقية. يكتب الشاعر عبد السادة العلي قصيدته كمن يمسك بيد القارئ ويقول له: لا تخف… فالنور قد يتوارى لكنه لا يموت. ولهذا، فالقصيدة ليست مجرد قراءة شعرية؛ إنها درس في معنى البقاء.
القصيدة "باب المدينة"
تتباهه الشمس ..
من تشگ صدر الغيم٠٠
تنزع ثوب ضيها..
الما تلمّه اجروف
من يفيض..
بعد طول الغياب ..
الصبغ لون الگاع
او تتغاوه النجوم..
اتبات ويّه الليل..
تعرض نورها..
الما ينشره و ينباع
يتشيّم الغيم..
الفحط من ممشاه٠٠
من يفتح شبابيچه٠٠
او يكت عرگ المسافات..
الطويلة ابساع
وچفوف الشواطي..
الخدر بيها الماي٠٠
ما ترگه الچوالي..
شما تمد اذراع
وغصون الشجر ..
لو هب عليها الريح ..
تتعانگ .. ومن تصفن ..
تفك اعناگها٠٠
او ما تزت..
چف اوداع
وانته٠٠!!
الغبّشِت ويّه الشمس نورين٠٠
نور انشتل صاري..
و نور صار اشراع
وانته انته..
السريت اويه النجم فجرين٠٠
فجر الزت وميضه ..
او فجر ظل مطلاع
وانته٠٠!!
الطافت اچفوفه اعله متن الريح
ما ثلّج عزمها..
اولا صبرهن ماع
وانته٠٠!!
الطَوّگ ازنودك..
لا مرّه نزعته ..
اولا نسيته وضاع
يا لون الخضار!
الاخذ كل بستان لونه٠٠اوكل نبات..
الفرش وجه الگاع
رسَمت اعله الزمن بيدك٠٠٠
خرايط للشهادة ..
او درب لليمشون
ياااااباب المدينة!!
البيك الف مفتاح٠٠
ضيّعناه غفله..
او ما درينا اشلون ..
نفك امحاضن اضفافه ..
او نشوف٠٠انشوف
بيبان الضوه ..
وللسمه اشگد ادروب٠٠
من تنعت قوافلها ..
العليها اسرار هذا الكون
برهان وحياة ابكل زمان اتطوف
تشربها المسافات..
الرسمها .. السفر والتاريخ٠٠
وتوعي الضمير ..
المات بيه الصوت
امورّد عودها ..
اشما تمر بيها اسنين٠٠
لا موت العرفها ..
او لا تعرف اتموت
يشرب سَوره النهران٠٠
ويفزّزّ اجروح الطين
رَدّ ..ذاك الضمير
اللبس وجه ابليس ..
فوك اچفوف اهلها ..
التاجرت بالدين
رَدّ الطف علينا ايلوح..
گمرة دم٠٠
والاف الشِمِر بيها يبو الحسنين
يا صاري الكرامه..! الما نعاها الريح٠٠
و لا شجرة خياله اهتزت ابصفين
يا نجم الهدايه؟؟
الدرب تيهناه٠٠واحنه ابّبحر..
سفره .. ابلا سفر ماشين
احنه ابلا سفر ماشين