اخر الاخبار

لم يحفل جميع أهالي سوق الشيوخ المُحبة للشعر والأدب بمقدم الصبي الأسمر جمعة معيشي داود خليل الشمري مع أبيه وأخيه الأكبر الوافد من عمق الصحراء القصية ( نجد ) حيث موطنه الأصلي والذي أبصر النور فيه عام 1880 للميلاد، وهو لم يكمل عامه الرابع، إلا بعد أن اشتد عوده مع تقادم الأيام والسنوات وتفجرت طاقاته الشعرية بفعل الموهبة المتفردة التي نهلت من معين مدينة سوق الشيوخ الشعري الزاخر بالأدب والمعرفة فضلا عن تكوينه البدوي الذي منحها معجما ثرا من المفردات المعيرة التي التصقت بمخيلته قبل أن يغرد في الفضاء الشعري الذي تربع عليه طيلة عقود من الزمن . انتهج شاعرنا خطا متفردا بكتابة (الابوذية) وكل مولعا بها حتى منحها كل مقومات النجاح وكان نفسه الشعري في كتابة ( الابوذية ) محط أنظار الشعراء وقتذاك، حيث أجاد بما يمتلك من رقي الحس بالغزل حتى ذاع صيته بهذا اللون من الشعر، كما انه كان متمرسا بالسجال ويرد الصاع صاعين على كل من ساجله في تلك الأمسيات الجميلة التي واظب على حضورها، وكان شاعرنا ميالا إلى الفكاهة حتى كتب بعض الابيات المثيرة للضحك والاعجاب في هذا المضمار .

بلاغة  ومعنى

اشتغل الصبي ( جمعة معيشي ) في أحد بساتين المدينة ما ساعده على إطلاق العنان لموهبته الشعرية التي تناقلتها الألسن في كل مكان من المدينة قبل أن تتطاير ( ابوذياته ) الى المدن الأخرى المتاخمة لمدينة سوق السوق وتصبح سلوة للعاشقين ومتنفسا لمحبي الأدب والشعر وخصوصا من شغل قلبه الحب والوصال .. كما يبوح في أول ابوذية قالها :

وحك سورة عصا موسى ولك هاف

ما تسكي زرع كلبي ولك هاف؟

يناهي العرك غث عينك ولك هاف

ومن تنعس منامك بين اديه

شهدت المدينة برمتها نبوغ الرجل وفرادته بسبك اجمل الصور الشعرية ما استقطب الأصوات الأدبية المهمة واجبرها على الانصات لما يبوح به من نسج متمكن وباقتدار عال ينم عن ظاهرة شعرية لا يمكن إلا الوقوف عندها طويلا للتأمل وتذوق الشعر على أصوله الصحيحة .

الجوهرة السوداء

تزوج جمعة معيشي وهو لم يكمل عقده الثالث، بعد أن تطايرت أشعاره بين الناس وأصبحوا يرددونها بإعجاب كبير ، فأنجب ولده البكر ( معيشي ) ومن ثم ولديه عبد الله وفارس .

أصبح أبو معيشي من الشعراء المرموقين حتى أطلق عليه لقب الجوهرة السوداء ، وكانت له مساجلات كثيرة مع أعلام الشعراء وآنذاك كما أصبح مقصدا للكثير منهم حيث كانوا يلتقونه في بستان المرحوم “ الزاير دولي “ صباحا وفي مقهى صديقه الشاعر “ الملا صكبان محيسن الازيرجاوي “ حيث يجتمع الشعراء هناك قبل أن يعقدوا جلستهم في دكان كبير للمرحوم ( الحاج عناد الحريب ) بعد ان يعد لهم مكانا خاصا مفروشا بالحصران والسجاد العربي قبل ان ينتقل مجلسهم ليلا إلى احد منازل الشعراء كما ذكر الأستاذ فرقد الحسيني في كتابه الموسوم ( ابو معيشي ).

وكانت تلك الجلسات عامرة بفاكهة الشعر والارتجالات المقتدرة في الابوذية التي كان شاعرنا احد قاماتها السامقة .

بحذر واصعد عليهن ساف منساف

لهه يمة محمد عين منساف

لهه جعود فوك المتن منساف

ولها منحر يوسدني المنية

وفاة ابو معيشي

بعد عطاء شعري هائل وحضور متميز بالحلاوة والندية بين مجايليه من الشعراء، لفظ شاعرنا الكبير أبو معيشي أنفاسه الأخيرة في يوم 24/ 12/ 1978 لينهي بذلك رحلة شاقة مع الشعر امتدت لعقود طويلة عاشها الراحل متنقلا بين روابي الجمال الأخاذ من الشعر ومرابع الأبوذية التي أينعت على شفتيه وأورقت صورها المتلألئة بالحس الشعري الجميل ، بكنه بحرقة كل عيون المدينة التي حفظت شعره عن ظهر قلب وشيعته مدججا بالحب والشعر الى مثواه الأخير في مدينة الزبير حيث بقى قبره شاهدا على ظاهرة شعرية فذة ، وما زال عشاقه يزورونه استذكارا لروحه الحاضرة بين جنبات الشعر وقيل إن آخر بيت من الأبوذية نطقه الشاعر قبل الرحيل هو :

صد ليه حكيمي صدعني

عرف بجروح جبدي صدعني

يروحي اصفي البيابي صدعني

احجيلي برفجة الجناز اليه.

عرض مقالات: