تعاني بغداد ارتفاعا حادا في نسب التلوث الهوائي. فبالإضافة إلى الغبار الناتج عن التصحر والتغيرات المناخية، تخيّم الأدخنة السوداء الملوّثة على سماء العاصمة طيلة ساعات اليوم، بين دخان حرق النفايات وعوادم السيارات والمولدات الأهلية وانبعاثات المصانع ومحطات الكهرباء ومصفى النفط في الدورة. وتحت هذه السماء الملبدة بالأدخنة، يستنشق المواطن سموما خطيرة مسرطنة.

وتصنف تقارير وإحصاءات محلية ودولية، كتلك الصادرة عن وكالة حماية البيئة الأمريكية، بغداد ضمن المدن الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية حول العالم. فيما تصنف منظمة الأمم المتحدة العراق كخامس أكثر الدول تضررا من هذه التغيرات الآخذة بالتفاقم.

وبالنسبة للتلوث الهوائي، يرجع خبراء أسبابه إلى تضافر جملة عوامل، كالاكتظاظ السكاني بفعل الهجرة الواسعة من الأرياف، وانتشار العشوائيات في أطراف المدن، وتهالك البنى التحتية والخدمية فيها جراء ذلك.

ولمواجهة هذا التلوث والحد من آثاره الخطيرة، يرى اختصاصيون أن المطلوب هو زيادة المساحات والأحزمة الخضراء داخل المدن وحولها، وتشديد الرقابة على مخلفات الغازات والأبخرة المضرة بالبيئة والملوثة للهواء من مصانع ومعامل ومركبات، والعمل على تنظيم التوسع والتخطيط العمراني والسكاني داخل المدن بشكل يضمن عدم الضغط الكبير على منظومات البنى التحتية التي تعاني أصلا التقادم والاستهلاك، والتي هي بحاجة لتحديث وإعادة ترميم وبناء.

معادن وفطريات وبكتيريا

بحسب الخبير المناخي العراقي وعضو الاتحاد العالمي لحفظ الطبيعة أيمن قدوري، فإن العراق يعاني تحولات مناخية سلبية حادة نتيجة لتسارع مراحل الاحترار العالمي بشكل عام، وتدهور الواقعين المائي والبيئي في البلد على وجه الخصوص، مبينا في حديث صحفي، أن “تقارير أممية - كتقرير مركز دراسات الحرب في نيويورك لعام 2010 -  تشير إلى أن الغبار في العراق يحتوي على 37 نوعا من المعادن ذات التأثير الخطير على الصحة العامة، إضافة إلى 147 نوعا مختلفا من البكتيريا والفطريات التي تساعد على نشر الأمراض”.

وتابع قوله أن “تقرير وكالة حماية البيئة الأمريكية لعام 2011، لفت إلى ارتفاع تركيز الملوثات في أجواء العراق، كالمواد المتطايرة PM2.5 التي بلغت ما يقارب 39.6 ميكروغراما في المتر المكعب الواحد، في وقت توصي فيه منظمة الصحة العالمية بأن لا يتجاوز متوسط تركيزات هذه المواد 5 ميكروغرامات في المتر المكعب”، مؤكدا أن “هذا التلوث أدى إلى تردي الهواء في العاصمة والبلد بشكل عام، وإلى ارتفاع حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي بين السكان”.

وأشار قدوري إلى أن “الأعوام العشرة الأخيرة كانت الأسوأ على العراق من حيث تخلف الواقعين البيئي والمائي، والذي ترافق مع تدهور مستوى نقاوة الهواء، وحصول انحدار حاد جدا في مؤشر جودته”، مؤكدا أن “كميات المواد المتطايرة تجاوزت اليوم حاجز الـ 150 ميكروغراما في المتر المكعب، خصوصا في بغداد التي تشير قراءات الأقمار الصناعية لوكالة ناسا الفضائية الأمريكية، إلى احتلالها المرتبة الثالثة بين عواصم العالم الأكثر تلوثا وتصديرا لملوثات الهواء”.

الأسباب والمخاطر

وعن أسباب الارتفاع الخطير في معدلات التلوث في بغداد، قال قدوري: “هي كثيرة، لكن أبرزها الاكتظاظ السكاني الهائل، وعدم اتساع العاصمة للأعداد الكبيرة من النازحين من المحافظات، إضافة إلى من هجروا مزارعهم ومراعيهم بسبب موجات الجفاف القاسية التي ضربت محافظات عديدة طيلة السنوات الماضية، خاصة في الوسط والجنوب”.

وبيّن الخبير المناخي أن “الإحصاءات الحكومية تشير إلى أن عدد سكان بغداد وصل لما يقارب 10 ملايين نسمة، وكربلاء لأكثر من 5 ملايين نسمة، وهكذا.. فهذه الزيادة المهولة في أعداد السكان تؤدي إلى ارتفاع الضغط على البنى التحتية للمدن، كونها غير مهيأة لاستيعاب مثل هذه الأعداد الهائلة، فضلا عن زيادة أعداد السيارات، خاصة التي لم تخضع للسيطرة النوعية أو لقانون يضمن حماية البيئة من انبعاثات عوادم المركبات”. وانتهى قدوري إلى أن “الأسباب آنفة الذكر، أدت مجتمعة إلى زيادة كارثية في انبعاثات الغازات الخانقة والمواد المتطايرة في سماء بغداد، والتي أبرزها الهيدروكربون العطري متعدد الحلقات، المسبب الرئيس للكثير من الأمراض السرطانية، مثل سرطان الرئة، فضلا عن الجلطات الدماغية والقلبية”.

مصفى النفط ومحطة الكهرباء

من جانبه، ذكر الأكاديمي المتخصص في علوم الجو، أحمد فتاح، أن “مصفى ومحطة كهرباء الدورة، كذلك محطة كهرباء جنوب بغداد، جميعها أُنشئت في خمسينيات القرن الماضي، وفي تلك الفترة كانت خارج الحدود الإدارية للمدينة وبعيدة عن مركزها، ومنسجمة مع ضوابط الأثر البيئي في ذلك الوقت”، مستدركا في حديث صحفي “لكن بسبب زيادة عدد السكان وتوسع المنطقة الحضرية في العاصمة، أصبحت هذه المنشآت تقع وسط المدينة”.

ونوّه إلى أن “استخدام النفط الأسود في هذه المنشآت يبعث نسباً عالية من الغازات السامة، حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية، مقارنة بوقود الغاز السائل الذي يعتبر نظيفا نسبيا”، موضحا أن “الانبعاثات من محطة كهرباء الدورة تؤثر بشكل كبير على دائرة يبلغ قطرها 5 آلاف متر”.