في بلد دمرته السياسات الفاشلة ونهج المحاصصة والفساد، وتغيب فيه الخطط التنموية والاستراتيجيات والمعالجات الجادة للمشاكل الاقتصادية، تفاقمت العديد من الظواهر السلبية، ومن بينها ظاهرة التسول التي انتشرت بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
هذه الظاهرة تعد واحدة من ملامح الواقع الاقتصادي المتردي وتدني مستوى المعيشة، وتفضح قبح سياسات القوى المتنفذة التي سحقت هذه الشريحة دون رحمة، وتركتها تواجه مصيرها بمفردها.
وكحال العديد من الظواهر السلبية، استغل بعض ضعاف النفوس الأزمة ومعاناة الناس، محولين ظاهرة التسول إلى مساحة للتربح.
وعلى هذا الأساس، نشأت مافيات وعصابات تستغل البسطاء وتستثمر في معاناتهم.
القانون يكافح التسول
يقول الحقوقي مصطفى البياتي، أن "قانون العقوبات العراقي يعاقب على جريمة التسول، حيث تضمنت المادة 390 من القانون رقم 111 لعام 1969 اعتبار التسول جريمة جنحة يعاقب عليها بالحبس لمدة لا تزيد على سنة، لكل من أكمل 18 سنة من العمر، ومارس التسول في الطرق العامة. أما الأحداث الذين يمارسون التسول فيتم إيداعهم في دور الإيواء والتشغيل"، وبرغم ذلك يجد البياتي ان هذه العقوبات هي "دون المستوى المطلوب".
ويؤشر البياتي في حديث مع "طريق الشعب"، اسبابا كثيرة تقف خلف زيادة ظاهرة التسول، مبينا أن "أبرز الأسباب تعود للازمات السياسية والاقتصادية والحروب التي ألقت بظلالها على المواطنين".
ويشير الى ان "نسبة الفقر زادت في السنوات الأخيرة، بالرغم من الخطط والمبادرات التي تُطلق من قبل الحكومة، إلا أنها لم تعالج جذور المشكلة، وبالتالي هي مستمرة"، مضيفا أن "ايراد المتسول يتراوح بين 50 الى 300 دينار عراقي، مما يجعله مهنة من الصعب التخلي عنها".
ويبين، أن "دخول العمالة الأجنبية إلى عالم التسول وتنافسها مع المتسولين العراقيين، جعل من الصعب التمييز بين المتسولين المحليين والأجانب. بالرغم أن القانون العراقي ينص على عقوبة الحبس لمدة شهر للمتسول في الطرقات العامة، ويشدّد العقوبة إذا تظاهر المتسول بالإصابة أو الإعاقة، إلا أن هذه العقوبات لم تُسهم في الحد من انتشار ظاهرة التسول في شوارع بغداد وتقاطعاتها".
ويذكر، أن "الفترة الأخيرة شهدت انتشاراً ملحوظاً لأشخاص يستخدمون أساليب جديدة في التسول لم يعهدها المارة من قبل. فلم يعد المتسول يكتفي بالوقوف أو الجلوس عند إشارات المرور والتقاطعات والشوارع منتظراً المساعدة، بل أصبح يتقمص أدواراً مختلفة لجذب انتباه الناس، اذ يقوم البعض منهم بالتسول عن طريق مسح زجاج سيارات المارة بدون اخذ اذن صاحب السيارة، او يقوم ببيع العلكة، واخرون يدعون المرض في الشوارع، فيما يتفنن اخرون بطريقة جديدة وهي ايقاف العجلات والطلب من اصحابها ايصالهم لمكان معين ليطلب بعدها المتسول من صاحب العجلة اني يعطيه مبلغا ماليا لكونه يسكن في احدى المحافظات وليس لديه اجرة النقل".
ويشدد البياتي على ان ظاهرة التسول "مشكلة كبيرة تتطلب حلولا قانونية وواقعية وزيادة في الوعي لدى المواطن بعدم التعاطف مع هذه الفئات من المتسولين"، وحث على ضرورة تضافر جهود المؤسسات الحكومية والمجتمعية ذات العلاقة لمحاربة هذه الافة، والوصول الى حلول واجراءات قابلة للتطبيق خلال الفترة القليلة المقبلة".
يومية المتسول 50 ألف دينار
ومع تجاوز إيراد المتسول 50 ألف دينار يوميا، كشف رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الانسان في العراق فاضل الغراوي، عن إحصائية مقلقة حول أعداد المتسولين، مشيرا إلى وجود 500 ألف متسول من العراقيين والأجانب داخل البلاد.
ويعتبر الغراوي، إن "التسول جريمة منظمة تهدد العراق وامنه"،
ويقول لـ "طريق الشعب"، أن "التسول ارتفع بشكل كبير جدا في السنوات الاخيرة في عموم محافظات العراق، وبات خطرا حقيقيا يهدد الامن فيه، مقارنة مع الأعوام الماضية"، مضيفا أن "التسول التقليدي يمثل نسبة ١٠ في المائة، الجريمة المنظمة تمثل ٧٠ في المائة، والتسول الالكتروني ٢٠ في المائة".
ويضيف ان التسول "مهنة تديرها عصابات الجريمة المنظمة إذ يتستر بها البعض للحصول على مساعدات من خلال منظمات وهمية او عناوين لجمعيات وهمية او المطالبة بتقديم مساعدات لأغراض العلاج من خلال التسول الالكتروني، وان اغلب موارد التسول تذهب الى عصابات الجريمة المنظمة حيث تدر عليهم أموال كبيرة".
وحذر الغراوي من "تهديد التسول للامن المجتمعي والاقتصادي والثقافي، ويعكس صورة مشوهة عن البلد "، مشيرا الى ان فئات المتسولين اغلبهم من الاطفال والاحداث والفتيات الذين يتم اختطافهم او استغلالهم او الاتجار بهم، اضافة الى متسولين من جنسيات عربية واجنبية تقودهم عصابات جريمة منظمة.
وطالب الغراوي الحكومة بمعالجة هذه الظاهرة عبر القضاء على عصابات الجريمة المنظمة وشمولهم بقانون مكافحة الارهاب وايداع المتسولين بدور ايواء او مراكز شبابية وتقديم برامج تأهيلية ونفسية لهم، وخلق فرص عمل حقيقية لهم، واعادة النظر بالمواد العقابية لظاهرة التسول.
ثلاث فئات!
وشهدت غالبية المناطق في الآونة الأخيرة انتشاراً ملحوظاً لظاهرة التسول، حيث ابتكر المتسولون أساليب جديدة لجذب تعاطف المارة. ومع تنوع هذه الظاهرة، يمكن تقسيم المتسولين إلى ثلاث فئات رئيسية، وفقا للباحثة الاجتماعية بلقيس الزاملي.
تقول الزاملي لـ "طريق الشعب"، أن "الفئة الأولى هم الفقراء والنازحون، وتشمل هذه الفئة الأشخاص الذين لم يحصلوا على رواتب من الرعاية الاجتماعية أو النازحين من مناطق الصراع. ويعتمد هؤلاء بشكل أساس على التسول كوسيلة للبقاء على قيد الحياة. النوع الاخر، النصابون، ممن يستخدمون حيلًا ذكية لكسب تعاطف الناس. من بين هذه الحيل التظاهر بالمرض أو الإعاقة، والادعاء بفقدان النقود أو الحاجة إلى مساعدة فورية. واخر نوع هم العصابات، وهو الأكثر خطورة، حيث تدير عصابات منظمة عمليات التسول، مستغلةً الأطفال والنساء في عملية التسول. ويتم استئجار هؤلاء الأشخاص واستخدامهم بطرق مختلفة، مما يشكل تجارة بالبشر".
وتحدثت بلقيس عن أساليب جديدة يعتمدها المتسولون في العراق، حيث قالت: إن "المتسولين في العراق طوروا أساليبهم ولم يكتفوا بالطرق التقليدية، وذلك للتهرب من الحملات الأمنية التي تستهدفهم". واستذكرت موقفًا حدث معها: "في أحد الأيام، أوقفني شاب بهندام ضخم طالبًا مبلغًا بسيطًا (500 دينار عراقي). تجاهلته قليلاً ثم عدت، ظنًا مني أنه قد يكون ناسيًا المال، خاصة من طريقة الطلب (محتاج بس خمسمية). بعد أن أعطيته، وعلى مسافة نصف كيلومتر، أوقفني شخص آخر وطلب المبلغ نفسه وبذات الصيغة. وبعد أسبوع، رأيت الشخص الأول وطلب نفس الطلب مرة أخرى، وأدركت أن هؤلاء الشباب اتخذوا من هذا الأسلوب مشروعًا للربح".
وأوضحت الزاملي، أن أسباب انتشار التسول تتنوع بين الفقر، والبطالة، والحرمان، وسوء التربية، وغياب العدالة الاجتماعية، مشددة على أهمية وجود قوانين واضحة تردع هذه الممارسات، وضرورة تعزيز الجهود المشتركة من قبل المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني للحد من هذه الآفة. وأكدت، أن الظاهرة معقدة ولا يمكن معالجتها من قبل جهة واحدة فقط، مشددة على ضرورة عدم تعاطف المواطنين مع المتسولين الذين يستغلون الآخرين لتحقيق مكاسب غير مشروعة، ومن المهم أن تدعم الجهات المختصة مبادرات محاربة هذه الظاهرة، بشكل فعّال ومستدام.