فـي أحاديثه الشخصية، وفـي تصريحاته لوسائل الإعلام، اعتاد الشاعر موفق محمد الذي غادر عالمنا عن (77) عاما، أن يطلق الطرائف، راويا الكثير من المفارقات التي تصادفه فـي الحياة بروح ساخرة، هذه الروح كانت طابعا ملازما له، وقد زحفت على شعره، حتّى غطّته، وفـي كل تلك الأحاديث تراه، رغم آلامه وأحزانه، يشيع جوّا من المرح، حين يذكر مفارقات تحمل طابع الكوميديا السوداء، فـيصدق به قول الشاعر: كالطير يرقص مذبوحا من الألم.
وفـي واحد من أحاديثه قال إنه ذهب ذات صباح باكر إلى تمثاله الذي يتوسّط واحدة من ساحات مدينته الحلّة، فوجد عمّال النظافة قد بكّروا قبله لتنظيف الساحة، وحين شاهده أحدهم مستغرقا، فسأله، من دون أن يعرف أن التمثال له، عن صاحب التمثال: هل هو سياسي أم مخترع أم قائد عسكري؟ فأجابه: إنه شاعر، فأصيب عامل النظافة بخيبة أمل، وقال: الله يرحمه!
كان موفق يروي الواقعة وهو يضحك، (هل سيضحك وهو فـي قبره حين يسمع أن هناك من يقف اليوم أمام تمثاله ويترحم له ؟) وجه المفارقة فـي الحكاية أن الناس اعتادوا على تكريم المخترعين، والشهداء، والقادة، بوضع التماثيل لهم، أما الشعراء، فحظهم هو الأقل فـي ذلك، ومن هذا القليل تمثال الشاعر بدر شاكر السياب المتوفى عام 1964 الذي أزيح عنه الستار عام 1971م فـي مدينته البصرة، وكذلك الرصافـي، وعبد المحسن الكاظمي، ومحمد سعيد الحبوبي، وكلهم، جرى تكريمهم، بعد وفاتهم، أما الشاعر موفق محمد، فقد كان استثناء، فقد نصبوا له تمثالا فـي حياته، وكان على نفقة أحد تلامذته الذين أصبحوا من رجال الأعمال، وقد افتتح بحضوره، وهذا دليل على احتفاء المحيط به، وتقديره له، فقد عاش علما من أعلام مدينته الحلة ونجما ساطعا من نجومها، وهذا نادرا ما يحدث فـي زمننا، الذي نشهد به تراجعا ملحوظا لمكانة الشعر ومع تراجعها، تراجعت مكانة الشاعر، إلّا موفق محمد فقد بقيت مكانته عالية، ولكن كيف اكتسب هذه المكانة؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه، وأوّلها أنه كان قريبا من آلام البسطاء، فكان صوت الناس، المعبّر عن آلامهم، وآمالهم، لذا أحبّوه، فحين سئل القاضي الفاضل عن سبب إقبال الناس على شعر المتنبي، أجاب: «إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس» فموفق محمد نطق عن خواطر الناس، فكان لسان حالهم، فأحبّوه:
"طفلةً حافـيةً ترقص تحت وابل من الرصاص
فـي الطريق إلى المدرسة وهي تجر خلفها حقائب من الأسى،
وكان اسمها زيتونةً وقلبها ينبض كالغصن يميل مع الرصاص يمينا وشمالا
ولا يسمع جرس الدرس الأول فـيعود منكسرا إلى قفصه..
لقد احدودبت ظهور أطفالنا
وأعشوشب الضيم فـي صدورهم"
وتنطوي قصيدته على مفارقة، ففـي قصيدة يصور فـيها قسوة الحصار الذي فرضته أمريكا على العراق فـي التسعينيات، فـيقول:
"رسم المدرس برتقالة
فوجد الطلاب يقشّرون السبورة
رسم المدرس دجاجة
فوجد الطلاب يلوّحون لها بالسكاكين
ترك المدرس قبره
وأصرّ أن يعطي الذين أحبهم
بعض الدروس
وجد الجميع بلا رؤوس"
جمعني به مهرجان المربد الشعري الذي أقيم فـي البصرة عام 2010، وتكررت لقاءاتنا فـي مهرجان بابل 2022 م ورأيته كما هو فـي شعره، عفويا، متوحّدا مع كلماته، فهو لا ينفصل عنها، بسيطا، حاملا أوجاعه التي يغطي عليها بسخرية مريرة، وخصوصا وجعه الكبير بتغييب ولده عام 1991 الذي خلّف جرحا لا يندمل عبّر عنه بالكثير من القصائد.