اخر الاخبار

غادرتَنا قبلَ عامٍ جسداً، ومكثتَ فينا وبيننا نفحًا طيبًا، بحميدَ الخصالِ وعميقَ المعاني المكتنزةِ آياتِ الجمالِ. مكثتَ في رؤانا فتىً ساخرًا بشيخوخةِ العقودِ المتراكمةِ, منافحًا عهودَها المظلمةِ الظالمةِ, كنتَ من النادرينَ الذينَ جايلوا كل مراحلِ أعمارِهم فتيانًا, واعتلوا صهواتِها فرسانًا وجابوا سوحَها شبانًا.

عدنانُ منشد.. فتى السبعينياتِ؛ فتى العقودِ المتكأكئةِ اللَكِعةِ.. فتى الأزمانِ.. يا باش مهندس..يا أديب.. يا فنان؛ ما هدَّ عزمَك جلادٌ، فكنتَ في اللظى البركانُ :ـــ

وقفتَ وما في الموتِ شكٌ لواقفٍ

   كأنكَ في جفنِ الردى وهو نائمُ

غَشِيِتَ الوغى؛ أخبرَنَا من شهَدَ الوقيعةِ ذلكَ، ولكنكَ عففتَ عندَ المَغنمِ, أخبرََنَا أنكَ في زنزاناتِهم وتدعو إلى سبيلِ فكركَ !! من غياهب قلاعِهم العسكرتارية !! من دهاليزِهم الخفيةِ وأقبيتِهم السريةِ.

لم تعبأ بأهوالِ العقودِ، ولم تُطفئ عواصفُها جذواتَ مسيرتِك الحثيثةِ، ولم تُخمدْ وهجَها المترامي أمامَك ومن حولكَ منيرًا لك الطريقَ السليمَ للمثقفِ الملتزمِ.

شَخَصْتَ شعلةً لم تَكبُ جمراتُها، ولم يتلاشَ شررُها. وها أنتَ تغادرُنا بعمرٍ تجاوزَ السبعين، ولكنكَ تَتركُ بيننا بدايةً جديدةً؛ تُدشنُها بقدرةٍ إبداعيةٍ نادرةٍ وكأنكَ تبدأ مسيرتَك الإبداعية للتو. وكأنكَ في حماسةِ منطلقِ مشوارِك الذي ابتدأتَه قبل خمسين عامًا.

ها أنت تَفتتحهُ وتواصلهُ بروايتك الأولى, درة ًمن دررِ السردِ النفيسِ, فكأنكَ تَهِبُنا إياها هديةِ آخرَ الرحلةِ، لتَمنحَنا بعضَ العزاءِ بفقدكِ الموجعِ. هديةً ثمينةً يَندرُ أنْ يَجودَ بمثيلاتِها الراحلونَ, فكأنك ادَخرتَها إلى ما بعدِ الرحيلِ لتكونَ مواساتَنا، وتعلةً في مواجهةِ غيابكَ الممضِ. فتى الأزمان.. شكراً على هديتِكَ التي ادخرتَها لنا كلَّ هذه العقودِ, شكراً لكَ وأنتَ تُخلِّفُ فينا آخرَ منجزاتِك الباهرةِ, شكراً لكَ وأنت تَكنُزُ فيها قيمَكَ التي نشأتَ عليها ودأبتَ على مواصلةِ تجسيدِها حتى تَرجمتَها في نهايةِ المطافِ عملًا روائيًا رفيعاً رفعةَ اٍبائِكَ, وعالياً علوَ شكيمتِكَ وسخياً سخاءَ زُهدِكَ وبَرَمِكَ بالمُغرياتِ والمُغوياتِ التي تبارى فيها، بل تكالبَ عليها محمومونَ من شتى المشاربِ وبمختلف المآربِ وبتفاوت الأعمارِ؛ برمتَ حتى بحقوقِك الحقةِ، ولم تُتعبْ نظرَكَ حتى بالالتفاتِ إليها.

واجهتَ الضنكَ وما ساورَكَ القلقُ من أنها أوهى من أن تسدَّ لكَ رمقَكَ الروحي؛ كان مبتغى أنظارِكَ الأفقُ الذي ظللتَ تَغذُّ السيرَ نحوَهُ منذ حددّتَ اتجاهَهُ برهافةِ حسِّكَ الفتي الصافي ودقةِ وعيِكَ العميقِ الضافي.عدنان منشد.. أبحَرْتَ نحو ذلك الأفقِ بألقٍ كبيرٍ ودفقٍ وفيرٍ. لقد استَتَرتَ عن التظاهرِ والظهورِ.

ونَأيتَ عن التكالبِ على لبِّهم والقشورِ.

وانتبذتَ زاويةً قصيةً، آنِفاً من كلِ ما حولَكَ من ولائمَ حتى لوحتَ لنا بتلويحتِكَ الأخيرة.ش

عرض مقالات: