اخر الاخبار

لم تعد الرواية حالة تعبيرية خالصة لِما يشعر به الكاتب، بل تَعَدت إلى نوع آخر من السرد بتسليط الضوء على فكرة ما بصيغة رمزية.. والميدان ميدانه، له الحق في تناوله كما يريد وبما يبحث ويقرأ ويجاهد في أن يحصل على معلومات ومصادر تصب في خدمة فكرة روايته التي يريد إنجازها وتقديمها للقراء لتكون بشكل مختلف عنما هو سائد، ومنها هذه الرواية الرائعة، التي انتهجت فيها الكاتبة البريطانية (باولا هوكينز/ 1972) نهجاً دقيقاً لتكشف عن عوالم غريبة وتناقش قضايا حيوية، حساسة في المجتمع الغربي والمرأة خصوصاً، لتنقل لنا الأحداث بأسلوب سردي/ مأساوي مثير وبمهارة فائقة بالاسترسال يجعلنا نمضي في تقليب صفحات الرواية ونندمج مع الأحداث اندماج القطار على سكته. من نافذة القطار أدخلتنا الكاتبة المولودة في مدينة “هراري” بزيمبابوي، واستقرت في لندن عام (1989) بعمر (17) سنة إلى حيوات أخرى لثلاثة سيناريوهات متخيلة لثلاث نساء (ريتشل/ طليقة توم، وميغان/ عشيقة توم، وآنا/ زوجة توم التالية) ثلاث عربات تمضي على سكة تتمثل بشخصية (توم). وهي أشبه بالمذكرات لثلاثتهن.. تصور انفعالاتهن النفسية بحبكة سردية مشوقة تتشابك خيوطها ورصد الحالة التراجيدية بمهنية روائية خبيرة تتخيلها كأنها واقع يتمثل أمامك. وقطار ضواحي لندن يعد ظاهرة مبهرة لدور النشر والتي فازت بجوائز عديدة وحققت نجاحات كبيرة ومبيعات عالية أكثر من (15) مليون نسخة في جميع أنحاء العالم، وترجمت لأكثر من (42) لغة منها العربية.. ترجمها “الحارث النبهان” ترجمة راقية/ دقيقة بالمستوى والأداء اللغوي، نقلت الأحاسيس والمشاعر قبل الكلمات. وقد أُنتجَ كفيلم قبل نشرها كرواية في العام (2014) بواسطة (Dream Works Pictures) وبدأ بتصوير الفيلم في نوفمبر/ 2015 في مدينة نيويورك. من إخراج “تيت تايلور” وبطولة (إيميلي بلنت/ ريتشل، هيلي بنت/ ميغان، ريبيكا فيرغسون/ آنا، جستن ثيرروكس/ توم) وحاز على العديد من الجوائز السينمائية. ومَن لم يقرأ الرواية أولاً لن يكون بإمكانه فهم أحداث الفيلم بشكل جيد، فالتفاصيل الدقيقة في الرواية هي التي تعطي للحكاية قيمتها الأدبية الحقيقية والإبداعية. ولقد صدر للكاتبة أربع روايات أخرى قبل هذه، لم يكتب لهم النجاح، وكانت تنشر باسم مستعار هو (آيمي سيلفر). وفي العام 2022 نشرت روايتها الناجحة أيضا “على نار هادئة. تصنف (فتاة القطار) كرواية (بوليسية) على غرار روايات اجاثا كريستي وألغازها كونك تشك بكل الأشخاص ماعدا الشخصية التي قامت بالجرم.. أو (خيال علمي/ علم النفس). وتجسد معنى الانحلال الأخلاقي بالخيانة الزوجية وادمان الكحول ومعاناة المرأة المطلقة، والاكتئاب، والوحدة، والخوف. مثلث تجسده أضلاع ثلاثة (ريتشل وميغان وآنا): عوالم بطلة الرواية الرئيسية (ريتشل) التي لديها مخيّلة مفرطة في النشاط رغم ثمالتها، تروي لنا من خلال نافذة القطار الذي يمضي ببطء من ضواحي لندن إلى قلبها، تعكس خيالات امرأة مطلقة (مضطربة/ مدمنة/ مكتئبة) فقدت توازنها وتأرجحت بين الواقع والخيال. تستقل القطار يومياً للذهاب إلى عملها الذي فقدته.. تسند رأسها على زجاج العربة ناظرة إلى البيوت التي تجري كأنما أمامها مثل صور متعاقبة. ومن بين هذه البيوت، بيتها الذي عاشت فيه كزوجة ولها بصمة في كل زواياه قبل طلاقها من (توم) الذي خانها وتزوج من (آنا) بعد اخفاقها في أن تكون أماً وأسكنها في بيتها وخلّف منها ابنتهما (ايفي). لم يكن بإمكانها تجاوز كل الظلم الذي تعرضت له فتضيع في متاهة الكحول والشعور بالوحدة والحزن وتحاول ترميم ذاتها ولملمة نفسها، لكنها تفشل، فما تزال تحب توم وتطارده. وكونها تعقدت من الخيانة يشد انتباهها ذات يوم بينما كان القطار عالقاً عند الإشارة الحمراء أمر غريب لزوجين تعتبر حياتهما ذهبية ومثالية تجد الزوجة مع شخص آخر يحاول تقبيلها، فتستعيد خيانة زوجها بالصورة، وتتبدد تلك الحياة التي تخيلتها، فتسقط في شباك قضية جريمة قتل معقدة، لتبدأ رحلتها في كشف هذه الحقيقة بعد اختفاء (ميغان). وبسبب إدمانها الكحول لم تتذكر ما حدث في النفق في تلك الليلة، حالة السكر الدائم وعلى طول خط الرواية يجعلها شخصية غير متوازنة/ منكسرة/ هشّة. ميغان.. البطلة الثانية و(العقدة) في الرواية، اختفت في ظروف غامضة، هي التي تراقبها ريتشل من القطار وتحسدها على حياتها مع زوجها (سكود) إلى أن تراها في أحد الأيام مع شخص بملامح أخرى. وباتت حياتها التي تحولت إلى سلسلة من العقد النفسية بعد موت أخيها ووالدها وطفلتها الرضيعة، فالكل يغادرها، لذا تبحث عن الجديد في دروب المستقبل، وتحاول مغادرة الآخرين قبل أن يغادروها، فتقع ضحية تخبطها وتعثرها ومعاناتها التي تختلف عن معاناة ريتشل، بل هي على النقيض منها تماماً.. ريتشل حبست نفسها في مربع الماضي، بينما ميغان تدفع حياتها نحو المستقبل وبدون تخطيط، هاجسها التغيير مما يجعلها تخسر حياتها نتيجة هذا التخبط الطائش الذي بلا بداية ولا نهاية بلا علاج لهذه الأخطاء التي لا تورثها سوى الألم، فدفعت حياتها ثمناً غالياً. وكلتا الشخصيتين مدمنتين.. ريتشل على الكحول وميغان على الأدرينالين. آنا.. الشخصية الثالثة، هي المرأة التي خانها توم معها.. لا تشبه ريتشل المسجونة في الماضي ولا ميغان التي تحاول التمسك بذيول المستقبل.. كانت بين الاثنتين، هي لحظة الواقع الذي عاشته، بعد أن غرمت بتوم وتزوجته وانجبت ابنة جميلة (ايفي). توهمك الكاتبة بأن بطلتها تعيش في عالم التخيلات وتدفعها تلك إلى أن تكون بشخصية مزدوجة، وقد جعلها الافراط بالشراب أن تنسى كل ما حدث لها، وكأنها كانت في غيبوبة، ولكن تبينَ لنا أن (توم) تعمّدَ أن يجعل نظرة الآخرين إليها هكذا ليتسنى لهُ التخلص منها والتفرغ لعشيقته. وشخصية توم تتمثل في موقفها من الرجال. توم.. سكة القطار الذي مضت عليه حيوات الشخصيات الثلاث.. المجرم والقاتل الذي كشفته الكاتبة في نهاية الرواية (الزوج والعشيق والطليق) هو شخصية معقدة/ مبطنة بالشر والاستهتار والأنانية وعدم المسؤولية هجر ريتشل كونها عاقر مما تسبب في إدمانها الكحول وخان زوجته آنا بعد أن أنجبت، فشعر بأنه مهمل، وقتل ميغان لأنها حملت منه. القطار وما حوله.. مركز الأحداث.. معنى مجازي له بعده العميق لمحطات الحياة.

عرض مقالات: