اخر الاخبار

دائب الحركة من دون كلل أو ملل، بجسد كما الخيزرانة نحافة ومرونة وعنفوان، متوهجا، أي وقت تراه، بإبتسامة  منداحة على وجه أسمر صبوح، يساعد هذه ويعين ذاك، ودودا محبا للجميع، مثلما يحبه الجميع.

الفتى علي الذي فاضت روح أبيه بين يديه، ذات نهار تشريني، برصاصة” مجهولة المصدر”.. ولم يك قد أقترف أي ذنب، سوى أنه كان يهتف مع آخرين، في ساحة التحرير مطالبا بوطن.

فجرا من كل يوم، ينطلق علي وحشد من جيرانه، شبابا وشيبا، نساء ورجالا، وأطفالهم أيضا، كل يحمل شوالاته، الى حيث جبال الزبل المتناثرة في خلاء موحش، والتي تحيط بها ما بدا مساكن، هياكلها محض صفيح صدىء، وبخليط من طين وتبن مملوطة سقوفها. يدبون على سفوح الجبال، صيفا مستعرا أو شتاء متجمدا، يلقمون شوالاتهم بعلب من المعدن أو قنان من البلاستك، حتى أذا أنقضت نهاراتهم وأمتلأت شوالاتهم، يمضون بها، متعبين مكدودين الى حيث دكان بائع العتيق، يزنها، ينقدهم أثمانها، فيقفلون الى مساكنهم راجعين.

في آخرة ذاك النهار، والشمس كعادتها بدأت تذوي لتغادر،  وسفوح جبال النفايات راحت تسكن من دبيبها، تناهى الى سمع علي، وهو لما يزل على احد السفوح منهمكا بالعمل، هسيس بلغه من فوق قامته: تعااااال.. تعاااال..، لبرهة أطرق علي، ثم مالبث أن أستجاب صاعدا، وراح كلما يخطو خطوة يتضح الهسيس درجة، حتى أذا أنتصف الليل وكان علي قد استوى واقفا على القمة، فيما غدا الهسيس صوتا واضح النبرات، جال بصره حائرا الجهات جميعها، ولم يلبث أن أستشعر ما يلفت اسفله، أصطكت عظامه وأعترته رعشة عظيمة، لحظة رأى، في دائرة مشعة صغيرة بين قدميه، مهرا ناصع البياض بأجنحة وعيون كحيلة الأجفان واسعة الحدقات، أناخ له فأمتطاه علي قابضا بكفيه على عرفه الأبيض الكث، غائبا أو مغيبا عن الوعي أو يكاد، شهق المهر بقوائمه الأربع من فوره مسافة في الفضاء، ثم نكس رأسه وجسده نحو مركز الدائرة، جناحاه طليقان يرفرفان، زارقا في عمق الجبل، لتنفتح الطريق سالكة رحيبة قبالتهما، المهر وفارسه، سابحين في نور وهاج.

بعد شوط من الزمن لايمكن حساب مقداره ربما كان دقائق أو سنوات، رأى علي قدورا جبارة، على جانب من مسراه، تفور قارا وصديدا، وتحتها نار موقدة عظيمة، فيما تشرأب من على حافاتها، صارخة مستنجدة، رؤوس آدمية بلحى وشوارب كثة وجباه مختومة، جسومها تسلق في جوف القدور، وتتخاطف أذرعتها خارجا ملوحة، وعلى مقربة منها جسوم شبيهة أخرى، مجندلة بسلاسل طويلة من حديد، وأدبارها مخوزقة بإسياخ حامية محمرة غليظة، فيما، يقابلهم جمع من نسوة عاريات نافشات الشعور معلقات من حلمات أثدائهن بكلاليب حديد، وبطونهن وظهورهن تكوى بإسياخ مجمرة.. وغير ذلك مما كدر روح علي وأجزعها، فأقشعرت لمرآه مسامات وشعر جلده.

.. وكما لوكان نيزكا، عبر المهر مبهر العينين كحيلهما، وفارسه متشبثا بناصية عرفه ناصع البياض، شوطا أخر من الزمن، وأضحت تبين أمامهما قسمات مرأى آخر، تفغم أنفيهما، منبعثة منه، عطور زكية، وقد أقتربا أكثر شاهدا خمائل يانعة بزهر ملون، تأتلف وإياها جداول وغدران من ماء ومن لبن ومن خمر، بدت صفحاتها كما مرايا رائقة صافية..

تباعا، وقد أبطأ من إندفاعة طيرانه، حط المهر رخيا قوائمه فوق عشب ناعم وثير، مشدوها رأى علي جموع من صبايا وصبيان بعمره، جذلين يرقصون بين تلك الخمائل والغدران، تحيط بهم أشجار تين ورمان وزيتون، وتظلهم سقائف أعناب، عناقيدها دانية، ما أن لمحت الجموع عليا حتى ألتمت عليه، هللوا لمقدمه، سقوه نبيذا أنعش العافية في جسده، وعلي تعقد الدهشة لسانه، راح يتفرس في الوجوه صافنا، هذه الوجوه ليست بغريبة، أنه يعرفها.. نعم يعرفها.. أين..أين؟..

أهتدى، بعد لحظات، الى أنه ألتقى بعضها في ساحة التحرير، والبعض الآخر، عبر شاشات التلفزة، في سوح التظاهر الأخرى التي حفلت، عرضا وطولا، بها البلاد.

ما مكث علي حتى ضمته جموع الصبايا والصبيان الى حلقاتها، واندفع راقصا وسط الراقصين بعنفوان ليس كمثله عنفوان، على وقع لحن عذب شدت به حناجرهم” جنه.. جنه.. جنه.. والله ياوطنه.. يوطن يحبيب.. يبو تراب الطيب.. حتى نارك جنه..”.

قبيل حلول الفجر بقليل أصطحبت الجموع علي الى ضفة خضراء لجدول قريب، شاهد شيخا تحتشد بحضنه وعلى كفيه وكتفيه ورأسه ايضا أسراب حمائم بيض، يطعمها دخنا وحنطة، ويسبل ساقيه في مويجات الجدول المنسابة الرقراقة، وجهه البهي نوراني الطلعة، سرعان ماعرف علي فيه وجه أبيه، ألتقيا، ضما بعضهما، تبادلا القبل، سأل الوالد ولده عن أمه وعن أهل حي الصفيح، وهل مازالوا يعملون ويهتفون عاليا يريدون وطن، طمأنه الولد: أن نعم.. ومن بعد مد الأب يمناه في عبه فأخرج مجلدا منقوشا على غلافه، بإحرف باهرة من ماس” كتاب الأبرار” ثم شدد موصيا ولده أن أقرأ صفحة منه، بكل ماتصدح به حبال حنجرتك، في كل ساحة وشارع وزقاق، يتظاهر فيها مواطنوك.. سيساقط، يابني، كن موقنا، كما الورق الأصفر الميت في الخريف، كل جبروت الظلمة والمفسدين.

متأبطا” كتاب الأبرار” مع الخيط الأول لضياء الفجر، متلبسا بحماسة ليس من نظير لها، أمتطى علي مهره.. مهره الأبيض كحيل العينين وسيعهما، منطلقا، تشيعه الحمائم البيض، عائدا الى حيث أتى.

عرض مقالات: