اخر الاخبار

على الطريق السريع بين بغداد ومدن الشمال، كان يلتهم بسيارته المسافات.  شجعه على ذلك قلة وجود السيارات في ذلك الوقت من النهار، ثمة نشوة كانت تغشاه، تشبه نشوة الجري خلف الفراشات، عندما كان طفلا في العاشرة، حيث كانت تلك القرية التي تفوح من بيوتها روائح الورد والقداح. شعر لوهلة أن عجلات سيارته الجيب تكاد تغدو أجنحة، وأن الخطوط البيض المرسومة على الأسفلت تنطوي مثل البرق بجنون. هناك فجأة وبلا تفكير واتته رغبة عارمة في إغماض عينيه تماما. سيكون بالتأكيد شعورا مذهلا، وتجربة قد تختزل عمرا من الملل والخيبات ودوامة من الضجر والشتات. عرف بإحساسهِ أن موت طفلته ذات السبعة أعوام في طريق عودتها من المدرسة، ثم ذلك الألم الساحق الذي إجتاح الأم وجعلها في حالة هستيرية دائمة، وصلت بهما للفراق، عرف أن كل هذا سيظل نابتا مثل خنجر ٍ صدِأ في خاصرته اللينة.

ربما كل ما يحتاجه الآن أن يغمض عينيه لبضع دقائق.  فقط ليواجه حقيقة كل شيء مرة واحدة.

على مدى رؤيته كان ثمة فراغ وهدوء عميقين في الشارع، من الخلف والأمام والجوانب. رفع من سرعة السيارة، انطلقت  مثل خطٍ مستقيم أسود هائل، قرّر أنها اللحظة المناسبة تماما، تنفس بعمق وحلّ الظلام.

 لم يعرف كم دام ذلك، فقد تلاشى إحساسه بالزمان والمكان مرة واحدة، كان أسير تلك النشوة الغرببة، كأنه شاهد كيف يتم إسدال الستار في اللحظة الأخيرة. عندما فتح عينيه، كان كمن نجا من الغرق وعادت رئته لاستنشاق الأوكسجين. لكنها لم تكن لحظة عادية، تلك التي التقطت فيها عيناه ذلك الشيء المتحرك الغريب وسط الطريق. أدار المقود بسرعة ليتفاداه، أحدثت عجلات السيارة احتكاكا قويا، وارتطمت بحافة الرصيف حتى توقفت. خرج فورا من السيارة ليرى ما ذلك الشيء. توقع أنه قط لازال يصارع الموت. عندما اقترب شاهد تلكما الكفين الصغيرتين الورديتين من تحت القماط الأبيض. كان يبكي، كأنه يطلب النجدة. حمله إليه بحذر.

 ‏وصعد سيارته لاهثا مبهوتا. كان على جانب الطريق يفكر وحيدا وبيده الطفل الذي بدا جائعا (ماذا سأفعل الآن؟ إنه جائع جدا) راح يداعب وجهه بكفه ويوجه إليه كلمات ليهدئه، فاجأه الطفل وقد سكن للحظات، ثم ما لبث أن عاود البكاء. أدرك أنه سيكون في ورطة كبيرة. (هذا الطفل سيجلب لي المشاكل، سيضعونني في السجن حتما.. لكن ماذا لو اكتفيت بوضعه بعيدا عن السيارات، سيأتي أحد ما لأخذه بكلّ تأكيد...يا لهما من عينين سوداوين بريئتين) راح يداعب كفيه ويضعهما على وجهه، كم بدتا ناعمتين سماويتين.  لقد استسلم الصغير للنوم بعد أن انهكه البكاء، فيما كانت تموج في رأسه الأفكار.

 ‏تصور مثوله أمام رجال الشرطة، والوقت الذي سيهدره لكي يثبت أنه محض عابر سبيل (نعم سيأتي غيري، سيمرون من هنا ويأخذونه وسيكون بأمان، هناك من يمتلكون وقتا كافيا)

 ‏بحرص بالغ وضع الطفل في مكان بعيد عن خطر السيارات وبزاوية تسمح برؤيته من أصحابها. عاد إلى سيارته، وقرر أنه لن يغادر حتى يطمئن تماما على الطفل الذي عاد للبكاء.

 ‏كانت قد ازدادت حركة السيارات، لكن أياً منها لم يتوقف. كم كانت تلك اللحظات شبيهة بانتظارها، بصدريتها الزرقاء والشرائط البيض في شعرها الأشقر، وحقيبتها الحمراء التي تثقل كاهلها، لكنها تأخرت كثيرا، وكان الوقت جارحا مثل سكين باردة (عندما خرجت للبحث عنها كنت أشعر أني لن أعود بها أبدا..بدا ذلك واضحا بطريقة ما في قلبي، كأني شاهدتها ممددة هناك على الإسفلت).

 ‏ لم يعرف أنه نام على المقود إلا من أفول قرص الشمس، فتح عينيه بفزع، وركض باحثا عن الطفل، كم شعر بالفرح عندما وجد مكانه  فارغا، كان كمن تخلص من عبءٍ كبير.  كاد يرفع رأسه ليشكر الله، لولا أن حانت منه التفاتة إلى شيء ما على جانب الطريق، كان يلتمع تحت حمرة الشمس الدامية قماط الطفل، رآه بوضوح يتأرجح في فم كلبٍ هزيل، ملطخ في زوايا ما من وجهه بالدم والتراب،  وأشياء متناثرة تشبه اللحم. ارتطمت ركبتاه بالأرض، وهو يراها هناك، مطروحة على الإسفلت، شرائطها فقط آخر ما تبقى.

عرض مقالات: