اخر الاخبار

ماجد الخطيب، كاتب قصصي ومسرحي ومترجم، و””درويش”” هي أولى رواياته. وقد كتبها وهو في الستين من عمره.

كتب ماجد الخطيب عشر مسرحيات، وقدم الشاعر الألماني الكبير هاينريش هاينه في دراسة موسعة لم يسبقه أحد إليها، وترجم عشرة كتب عن ثلاث لغات، وجاءت “”درويش””، خاتمة العقد، وخلاصة ناجحة لتجارب عديدة.

باستثناء نجيب محفوظ حصرت الرواية العربية نفسها بأسلوب البطل الاجتماعي التائه والباحث المستقصي في محيطه المعيشي، المناضل لتحسين حالته المادية وفق زاوية ضيقة تركز على نضال دائب يأخذ معظم الرواية، تاركاً المجتمع الذي يعيش فيه بما فيه كما هو!

نجيب محفوظ وحده نقب ووجد أبطال مجتمع كانوا يملأون فراغاً ويشغلون الناس والسلطة، نسميهم في العراق”الشقاوات” وفي سوريا “القبضايات”، وفي مصر”الفتوات”، وهم موجودون في كل مجتمع عربي بتسمية خاصة بهم. في العراق لم يهتم أحد بهم، وبخاصة من الروائيين، وكأن تشخيصهم يسيئ إلى الأدب والأديب، فابتعد الكاتب عن محيطهم ولم يشر حتى إلى وجودهم. وميزة المؤلف هنا أنه تناول أحدهم بمثابة بطل شعبي فأشبعها درساً، وقدمها لنا غنية قوية صادمة.

“”درويش”” هو الأبن الوحيد بين بضعة بنات، سبقه أربعة أبناء، وبضع بنات، مات الأبناء ولم يبلغوا السنة، وبقيت البنات، فكأن وجوده تحدٍ للخلق والخالق، وللتحدي شروط لا تتوافر إلا بخواص شخصية فريدة، غير أنها كانت موجودة في “”درويش””، الضخم القوي المؤمن بتعاليم الدين، ربي على أن يكون “درويش”اً بحق، لكن المجتمع الذي عاش فيه أنشأه على تمرد اكتسب من طبيعته الشخصية مزايا لا تتوافر في أي فتوة شعبية، فهو يميل إلى العدالة في كل أحكامه، ويبتعد عن الاعتداء والاستغلال والكسب الحرام، فكان إلى جانب قوته وميله لتطبيق العدل سمعة طيبة.

بل أراد “درويش” أن ينقذ البشرية كلها من الموت كجده كلكامش، فعندما حضرته الوفاة، أمر أولاده أن يضعوا سيفه في يده، ويخرجوا من الغرفة، قائلا لهم أنه سيقتل عزرائيل ويخلص البشرية من شرّه، فجلس الأولاد بباب الغرفة، علهم يسمعون صليل السيوف مع عزرائيل، وينتظرون نهايته، حتى ادركهم النوم، ولم يسمعوا أي ضوضاء تدل على معركة بين “درويش” وملك الموت، لكنهم في الصباح وجدوا السيف نابتاً في حائط قريب من فراش “درويش” الميت، فأدركوا أن “درويش” ضرب ملك الموت لكن الضربة أخطأته ونشبت في الحائط، بينما تغلب عزرائيل على “درويش” وقبض روحه. وبهذا يكون دريش هو ثاني خلق الله الذي فكر في القضاء على الموت ليعيش الناس بسعادة وبدون فقدان الحياة حتى الأبد.

ولأن اسمه “درويش” فقد اختار له أبوه أن يكون اسماً على مسمى فألبسه زي الدراويش “صاية وحزام قماش وطربوش أحمر” من عمر سنة حتى السادسة، عندما وعى “درويش” أن ملابسه تعزله عن اللعب مع أقرانه تخلى عن زي الدراويش، لكنه لم يتخل عن تقاليدهم، فكان واضح الفكر والقرار مع العدل والإنصاف بين الأصدقاء والخلان، حافظاً لكثير من الآيات القرآنية والتعاليم الدينية، مما جعله خير طلاب المدرسة القرآنية “الكتاب”.

ومع كل ذلك لم يكن “درويش” يمارس الشعائر الدينية بل انساق مع من في سنه إلى المتع السائدة في المجتمع، وبخاصة شرب العرق، مع صديقه المقرب محمد علي شقيق زوجته.

آنذاك وقع الشعب تحت ثلاثة أنواع من السلطة، ولو كان العثمانيون وحدهم موجودين لهان الأمر لكنهم تعاونوا مع أعدائهم الانكليز في تشخيص وتعذيب الخارجين على القانون والقبض عليهم وتعذيبهم، وكان العثمانيون والانكليز يقاومون تدخل الإيرانيين ومنعهم من التعامل مع الشعب، ومنع التهريب من وإلى إيران، لكنهم لم يقضوا عليه، وكان الشعب العراقي يعاني تحت هذه السيطرة الثلاثية أشد أنواع الاضطهاد، ولما كان المهربون على الأعم من الفقراء الذين يتصيدون الفرص للحصول على لقمة العيش، فكانوا يراقبون الحدود طيلة الوقت، ولذا نصحوا “درويش” للهرب إلى إيران تحت رعايتهم، وحينما جاءت الفرصة وجد نفسه في إيران واقعاً في مركز شرطة حدودية.

المركز صغير لكن فيه بضع زنزانات حديد خصصت واحدة لكل سجين، وكانت أبواب الزنزانات عبارة عن مشبك من قضبان حديد بين واحد وآخر نحو عشرة سنتيمات، تتيح لمن فيها تبادل الكلام طيلة الوقت، وهذا يعينهم على قضاء الوقت. ولحسن حظ “درويش” كان هناك دائماً مهربون موقوفون، وكان هؤلاء يتبادلون مع “درويش” الكلام، وكانوا يقصون عليه أخبار مغامراتهم وكيف كانوا يهربون السجاد من إيران إلى العراق، والشاي من العراق إلى إيران، وبضائع، كورد لسان الثور. ولعل هذا الكلام ساعده على قضاء الوقت والتغلب على جرح رجله.

لكن ظهر هناك في كل زنزانة ضيوف جدد، إذ شاهد “درويش” جرذان بحجوم قياسية تصل إلى حجم القط، فدخل مع أحد المهربين في سباق قتل الجرذان، ومما ساعد “درويش” على قتل هذه القوارض وجود جريدة ملوثة بزيت الكباب الذي يأتي به الحرس، فاتخذ من الجريدة كرات صغيرة تجذب الجرذان، لكنه كان يعاني من مشكلة نفسية وهو يقتل الجرذ، فيكاد يتقيأ، غير أنه تغلب عليها.

استطاع “درويش” أن يستغل سمعة عائلته لإقناع أصحاب المطاعم أن يرسلوا له الطعام باستمرار من أفخر وجبات إيران، وأن يسجلوا المبالغ إلى حين يخرج. فأصبح السجن بعد نقله إلى قاعة كبيرة أشبه بالنزهة، عند ذاك قويت صداقة “درويش” بمدير المركز فتوسط له هو وغيره وأطلق سراحه، وهنا نزل عدد السلطات التي تتعقبه إلى عثمانيين وانكليز فقط، فقرر البقاء في إيران إلى حين الهرب الآمن إلى بيته.

جاء الوالي العثماني”أبو كواني”، الذي صار يضع المتمردين، من أمثال “درويش” في أكياس الخيش ويغرقهم في شط العرب، لم يستطع “درويش” البقاء في بيته الخاضع لمراقبة الشرطة، فقرر الانتقال من البصرة إلى النجف، وكانت هناك تحديات أخرى؛ إذ بدا شقاوات النجف ومصارعوها يتحدونه في”الزورخانة” فقرر الدخول في نزالات معهم، كان هو الفائز بها، لكنه لم يشعر بالأمان لأن المصارعات خلقت له أعداء جدد، فرجع إلى البصرة، وهناك وجد نفسه مع دور رسم له كزعيم شعبي، عليه أن يخلص الناس من الأوهام كالجن والشياطين المتواجدين في البساتين والمناطق النائية والجوامع المتروكة القديمة. بذلك قضى شهوراً يتتبع الخرافات والجن ويكشف زيفها، ولعدم وجود سلطة فاعلة في المنطقة كلها أي في (البصرة) والعراق أجمع، فقد لجأ الناس ولاسيما أصحاب المشاكل إلى من يظنون باستطاعته إنقاذهم، وهكذا برز “درويش” في المنطقة كلها كحلال للمشكلات، كمنقذ لأبناء الشعب ممن يضطهده ويستغله، فشاع اسمه كمنقذ من الجن، والمستغلين والمتعاونين ونصب نفسه مسؤولاً يستطيع قضاء حاجات الناس.

يستعرض الكاتب بواقعية ما يجري في أغوار المناطق من محتالين  يستغلون جهل الناس، ليجلب لهم الخير، ويسرد بواقعية سحرية كيف يحرر “درويش” الناس من خرافات الجان والشياطين، ومن  فكرة من يستطيع السيطرة على الغيوم في السماء لتمطر في هذه البقعة أو تلك. لأن ما يشاع عن “درويش” أنه لا يؤمن بالخرافات، فقد سعى إليه ذوو الحاجات ليمهد لهم الطريق لاسترداد ما ضاع منهم أو ما يأملون أن يحصلوا عليه.

 وحين سرى بين الناس ما يدعى بالفرهود، وهو سلوك لجأ إليه بعض الناس الذين أرادوا أن ينتفعوا من ضعف السلطة حين تغيرت من عثمانية إلى انكليزية، فكونوا عصابات تهجم على بيوت الضعفاء من مسيحيين ويهود أو مسلمين أغنياء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فينهبون ما خف حمله وغلا ثمنه، كان “درويش”، مختار منطقته، أشبه بسلطة مسلحة يفرض وجوده الآمان في الحي في ذلك الزمان، ليثبت نفسه زعيماً للشعب المضطهد، المخلص من المشكلات، وبؤرة الأمان القضاء على عزرائيل قبل أن يموت، فقرر تخليص البشرية من شره، ليعم الخلود الجميع.

كان ظهور “درويش” ضرورة مهمة في تلك المنطقة من البصرة ليخلص الناس من المستغلين الأميين الذي سادوا في منطقة نائية حينما خلت الساحات والشوارع والدروب الشعبية ممن يفرض القانون فيها ويحافظ على النظام وحقوق الناس الضعفاء.

كان لمساهمة ماجد الخطيب في كتابة رواية “درويش” إحياء شخصية نادرة الوجود تركت أثراً لا مثيل له في منطقة مشهورة حول مدينة البصرة، مازال يذكره الناس حتى الآن.

عرض مقالات: