اخر الاخبار

يعد الفنان الموصلي الرائد سالم الدباغ احد اهم مؤسسي فن الكرافيك في العراق الحديث، اذ كانت لتجاربه الابداعية والريادية دورها الرئيس في تطوير الفن التشكيلي العراقي بشكل عام وفن الكرافيك بشكل خاص. تميز الدباغ من خلال اسلوبه المتفرد في الكشف عن مضامين الانتماء في الكشف عن التجربة العراقية بالترميز والعلامات والاشارات التي لغزها وشفرها في معظم اعماله الابداعية لأكثر من نصف قرن من الزمان.

لم تكن تجاربه مؤثرة وبارزة في الساحة التشكيلية العراقية والعالمية من خلال الاسلوب حسب، بل من قدرته العالية في ميدان التجريب الذي كانت له محاولات ليست بالقليلة كماً وبالجديدة نوعاً، بل استطاع ان يقدم مشهداً بصرياً متجرداً فاعلاً ومؤثراً. اذ تأثر بكبار رواد التشكيل العراقي امثال جواد سليم وفائق حسن وخالد الرحال وغيرهم من اساتذته في معهد الفنون الجميلة ببغداد حيث كان متأثراً بهذا الرعيل الاول والمهم من الفنانين الرواد، كما تأثر بأستاذه في اكاديمية الفنون الجميلة آنذاك ورائد فن الكرافيك في العراق البولوني (ارتموفسكي) الذي وضع اسس فن الكرافيك في قسم التصميم بكلية الفنون الجميلة جامعة بغداد.

تميزت تجاربه الاولى بتقسيم فضاء اللوحة الى اربعة ارباع وزع عليها الكتل الهندسية والاشكال المختلفة وبتضادات لونية مثيرة ولاسيما ما بين الابيض والاسود حيث تميزت معظم لوحاته بتلك العلاقة المتضادة الجميلة ما بينهما، وكأن تلك التقسيمات تذكرنا بتجارب الفنان العالمي التجريدي (بيت موندريان). وقد تطورت مهاراته بشكل متحول وجديد في دراسته العليا لفن الكرافيك في البرتغال حيث حصل هناك على درجة الدبلوم العالي وبدرجة الشرف، استعمل ايضا العديد من الاشكال الهندسية الاخرى كالمثلثات والمستطيلات والخطوط الداكنة والغليظة او الاخرى الرفيعة والباهتة وكأنه يشير الى صراع ما بين قيمتين متضادتين لونياً وشكلياً وحجمياً، ولابد من الاشارة بشكل مركز الى تلك التجارب الكرافيكية المهمة في تجسيده للتكوينات المربعة الشكل التي كان يوزعها بشكل متتابع حجمياً او تنتشر بعشوائية في الفضاء، او بتكرارات ذات ايقاعات بفترات منتظمة احيانا، او غير منتظمة في احيان اخرى.

نظر الدباغ الى الانسان بوصفه كائناً قلقاً غير مستقر وفي حالة بحث دائم في عوالم لا تحدها حدود او ترسمها حافات فضاء تشكيل لوحاته، فلأنسان احيانا في حيرة وتشظي وسابح في الفضاء او في داخل المربع محاصر لا يعرف الفرار من قدره المحتوم... وفي خطاب كرافيكي بصري اخر يبين لنا الدباغ صراعاً حتمياً ما بين شخصين مختلفين في حالة صراع وكأنه يعبر عن ثنائيات متنافرة، كالحياة والموت، الخير والشر، الحب والكراهية... وكأن الزمان اصبح متوارياً خلف تحولات غامضة لا يستطيع التعبير عنها الا من خلال حركة تلك الكتل البشرية بين تلك التكوينات الهندسية التي يعبر فيها بظل متحرك ومختلف ومتنوع بين مربع واخر بإيقاع يوحي بالزمن المستمر غير المنتظم في حركة اشكاله، وكأنها دورة القمر من الهلال الى الهلال... استطاع سالم الدباغ ان يقدم لنا تجارب جديدة في اعماله الكرافيكية المعاصرة وصفها العديد من نقاد الفن التشكيلي بانها نقطة تحول هائلة ومحاكاة جديدة للعناصر والاشكال والتكوينات المختلفة في اللوحة المعاصرة، اذ استعمل فن الكولاج او التلصيق وادخال هذا الفن كتقنية جديدة في بناء اللوحة الجديدة او بناء الشكل الجديد كما فعل (موندريان) في نظريته المهمة التي اطلق عليها “بالقولبة الجديدة” او “اعادة بناء اللوحة”. كما ادخل الالوان في لوحاته بعد ان اقتصرت على قيمتين الابيض والاسود، اذ بدأ يضع لنا الواناً متضادة وبأشكال جديدة لونها بالألوان الحمراء والزرقاء وبعض التدرجات اللونية الاخرى وبأطراف لا تأخذ حيزاً كبيراً في فضاء اللوحة التي بدأت تتسع وتكبر حجماً في تكويناتها وطبيعة تلك العلاقات الشكلية واللونية. رحل الفنان سالم الدباغ في الخامس من كانون الاول الحالي وهو صاحب التجربة العميقة والمؤثرة في الحركة التشكيلية العراقية المعاصرة تاركاً خلفه ارثاً وأثراً بالغ الاهمية للأجيال القادمة ، هي تجربة جديرة بالبحث والدراسة والتأمل.

عرض مقالات: