شاهدها بثوبها الصيفي الفضفاض، حتى انه اوشك ان يسألها، عن لونه  وتفصيله بل عن خياطته، او الخياط ان كان رجلا يحسن خياطة فساتين النساء. من امثالها التي تفرض على من يقوم بخياطة فساتينها وتفصيلها، ان يترك في احد جوانبها جزءاً مكشوفاً لاثارة الناظر اليها، الحقيقة كان يعرف انها تتعمد تحريك المزيد من المعجبين بها، الجسد المثير والنظرة الناطقة بالف وعد واصرار، على تنفيذ ما يعن لها من لحظات خاصة، تميل (ـــ ارجوان ـــ وهذا هو اسمها ) اليها بكل رغبة وتصميم على انتزاع ما تظنه حقا لها، مع نفسه يقول : اعرفها لا تكف عن تقليد بطلات السينما ابدا، لن تهدأ مالم ترى الرجل كيف يلاحقها بنظراته، حتى تلتوي رقبته لحظتها تنفجر بالضحك الصاخب، ويدها تضرب على احد فخذيها، بصورة لا ارادية بعدها تفيق من سكرة الضحك، تجده ينظر اليها ويرى، لكنه لا يملك ان يقول اي شيئ بل، تنطلق الحسرات الواحدة تلو الاخرى، ولا يكف عن ترديد عبارته الاثيرة : ضحية زمانك يا صديقي الفاجر. كان يخاطب نفسه بالطبع، لا يتوانى ان يزيد من حنقه لاعليها، بل على نفسه ويده تفرش امامه جريدة الامس، حتى اذا عاد الولد من عمله،  القى على والده جريدة اليوم، قلبها جيداً وتأمل الصورة المدهشة، للممثلة السويدية الشهيرة، وهي تكشف عن مفاتنها بسخاء حاتمي، ذلك حلمه المتواري ( افا جاردنر ) ضحك بصوت مسموع، وهو موزع الخاطر بين ثلاث نساء : الزوجة المنشغلة باعمال المنزل، وجارته التي تعلق بحبها من طرف واحد، وافا جاردنر حلمه القديم للسويدية الفاتنة، توارى مع مضي سنواته السبعين، كان يبدو سعيدا بمثاله المثير للعديد من رغباته المكبوتة، يردد مع نفسه ترضيةً لخاطرهِ الشقي :

 ــــ الزوجة تحصيل حاصل، مرضاة للوالد وتحقيق امنية الام، بزواج وحيدها الذي لا تكف عن الذهاب الى القديسين والاولياء، وطلبها منهم ان يعينو ابنها الوحيد، في حياته الصعبة مادام وحيداً وسيبقى كذلك حالما تودع دنياها، وان يقتنع بالزواج من احدى بنات شقيقتها، كان يضحك من مخاوفها ومرات كثيرة يداعبها، بكلمات غامضة عليها لما يقول لها : اطلبي من افا جاردنر يا امي ان تحنن قلبها علي.  وان تطلب من جارتهم المذهلة، الجمال في صفاء بشرتها وعينيها الواسعتين، والكتف شبه العاري تمنحه فرصة لرضاء غرورها، الذي اتعب نساء الحي قبل رجاله، اذ هي دائما لها نزهتها المسائية التي تثير غضب الجميع، باستثناء حفنة من الفتيان والشباب فقد كان مشهدها، وهي تسير وحيدة او مع صبي من العائلة، تقطع الطريق الطويل الى السوق لا شيء الا لكي تبتاع غرضا، هي ليست بها حاجة شديدة له كان مشهدها يثير الجميع.

قلب جريدة الامس وقرأ العناوين السياسية، تمعن بالصور وشعر باشمئزاز من وجوه عدد من السياسيين، اتجه الى موضوعات اخرى في الجريدة، وبعض من اخبار الرياضة، عاد ثانية الى الصفحة الاولى ليقرأ عن نيلسون مانديلا وعن حركة اللاعنف في العالم وتذكر الفلم الرائع عن حياة غاندي وكيف قهر مستعمريه الانكليز في سياسة اللاعنف وارغمهم على احترامه واحترام  طريقته في معالجة قضايا الهند قال: ليس  لدينا سياسي يفهم غاندي لذا كلنا نلجأ الى العنف، وتلفظ عبارة واحدة : الويل للفاسدين من يوم العقاب. كان الشيب قد غزاه تماما، لم يظهر عليه انه شاخ او اوشك على التهالك والعجز انما لم يعد ذلك الفتى الذي كما يظن: لا يستطيع الزمن ان يقهره! كان لديه حشد من الاصدقاء  يلتقون كل مساء في بار او مقهى او احد الاندية المعروفة والفرح يطوق جلساتهم، واضح انهم كانوا سعداء فيما يقومون به ويمارسونه من افعال ليست بريئة انما لا تسئ لأحد، كان هذا يرضيه ويساعده على تجميع صور الذاكرة التي اصبحت خاوية كما يصفها مع نفسه، كلهم كان يحتفظ بصورهم وذكرياته معهم، وهو ما عاد يعرف الى اي البلدان هاجروا او هربوا من موت محقق تدخره لهم سلطة البلد تلك، وفي الأونة الأخيرة بات كثير السؤال عنهم، وجد من الصعب ان يهمل ما عاشه معهم لأي سبب، اما الحنين الى تلك الايام الدافئة فقد اخذ يحدو به ويقض مضجعه، مسح بيد مرتعشة على صورة الممثلة السويدية مع ان صفحة الجريدة لم تكن قد اغبرت، انما مرضاة لعشيقته السويدية، لكي تبتسم وتقتنع بافعاله المرتبكة، اطال النظر اليها وتساءل مع نفسه ترى هل لها احبة واصدقاء  ضاعوا في البراري والمدن البعيدة؟ وللحظة شعر انه بحاجة الى كأس يروي به ظمأه، كان المساء يحط وينتشر في المعمورة، طلب بعض الفواكه والمكسرات جلبت له الزوجة ما اراد لكن على مضض، اخذ رشفة من قدحة وتأمل الموجودات من حوله ثلاث روايات وكتاب عن العلامة المصري طه حسين، محال ان يكون ضريرا، كيف له ان يؤلف كل هذه الكتب التي لا يمكن اهمالها ابدا، بدت النشوة تسري في جسده النحيل وكذلك وجد صعوبة السيطرة التامة على ذراعه ويده اليمنى، جاءت الزوجة ووضعت امامه عددا من المعلبات واشارت عليه ان يفتح اي علبة يرغب في تناوله لها، ومن دون قصد منها قالت سألت عنك جارتنا :

ــــ ارجوان، قالت هل يمكن ان اطلب منه كتابة انشاءً لأبن شقيقتي عن العيد الوطني وتقول انها لا تعرف شيئا عن الوطن.

ضحكت الزوجة بسخرية مكشوفة له، انتفض قبل ان تتم عبارتها الاخيرة :

ــــ نعم استطيع ان اكتب لها انشاءً.

ــــ ليس لها، انتظر يامسكين  لتعرف لأبن شقيقتها.

ـــــ  نعم نعم  لا يهم، نادي عليها الان اذا كان ذلك ممكناً؟

ـــــ كلا، ليس مناسبا في ساعة كهذه.

امتلأ خيبة من وجوده، هيمنت عليه لحظة شرود غريبة، ادرك انه اخطأ بحق نفسه ماذا يريد من حياته؟  بل كان من الممكن رؤيتها وهي تدخل عليه الى البيت ثم الى الصالة التي جعل منها مأواه ومستقره، ستمتعه بجلوسها معه لساعة من الوقت ويمتع ناظريه برؤيتها (ارجوان) ياللاسم الجميل البهي، لماذا تهيمن عليه الاسماء الجميلة التي لها وقع خاص في سمعه ونفسه، اسماء المدن بغداد ودمشق وباريس وغيرها، والانهار المسسبي والنيل الازرق  والبحار واسماء النساء صوفي وزينب وأمل وغيرها والبلدان التي شاهدها او تلك التي لم تتيسر له فرصة زيارتها، ولا ينكر ولعه بالنساء وكل ما يمت لهن بصلة، وبصوت خفيض قرع نفسه وكذلك لحظة تسرعه في اعداد المائدة، ولما غادرته الزوجة سحب الجريدة الى حضنه، بعد ان اخذ رشفة كبيرة ليواجه صورة الممثلة السويدية، تعلق ضحكة ماجنة على فمها الشهي، والجريدة ماتزال بين احضانه.

عرض مقالات: