اخر الاخبار

عندما سمعت صوتاً يقول : ماتت والدتك، كنتُ معتاداً الجلوس في مقهى (المربعة) القريبة من بيتي، أطالع مرتادي المكان، وكانت تنظرني تلك الليلة وهي تقول : لا تذهب يا بني، كان ذلك هو صوت أمي القلقة دائماً ، أسمع صوتها في قلبي فقط. فقد ولدت، وأنا فاقد للصوت، ولم أسمع شيئاً في حياتي سوى دقات قلب أمي، خرجت، وأنا أنظر إلى السماء الملونة بدرجات من الأزرق الفاتح ونسيم الهواء البارد يداعب وجهي، وحرارة الشمس على رأسي، ويداهمني شعور كاد أن يقتلني أنني لن أعود لأمي أبداً.

تملكني الصمت....هذا ليس لقائي الأول بالصمت، فأنا أعرف كل أسراره، وعبثاً يحاول الآن تضليلي بهمساته الكئيبة، وبحركاته التي لا يسمع منها سوى صدىً بعيد لا ينتمي إلى هذا العالم. كلما استنبطت معانيه، يزداد غموضاً، ليست له ذاكرة، هكذا هو الصمت.

ولدت معه هكذا، يتملكني بلا ضجيج، ولم يشعر حتى بألمي بالعيش معه، أنا الآن أشعر وأنا على ضفاف صمتي أني أغدو وأجيء بين ظلاله الوارفة، شعوره يجتاحني ولا أحد منا يشعر بالآخر، ومن دون أن أشعر يتسلل الصمت ببطء إلى أركان حياتي ليحجب أدق الأصوات...صوت أمي، كم تمنيت أن أسمع صوتها يوماً.

للحظة لا أسمع ولا أرى، فمن كنت أتوكأ عليها رحلت، ومن كنت أتكلم من خلالها صمتت، لم يبق من قوتي أي شيء، انسحبت وذهبت إلى المقهى الذي اعتدت الذهاب إليه، أقف لأرى المرج الأخضر، ونسمات الهواء والطيور، كلها تتجمع هناك، وأجدني طفلاً في حديقة الألعاب. لقد مرت من هناك ذاكرتي، وطغت عليها الذكريات.

حنين مرير على كل تفاصيل حياتي ،مرت الذاكرة بوطأتها الثقيلة عليَّ. المباني والأشجار والطرقات والحقول. كلها تثير فيَّ شعوراً قوياً بالرهبة، وكل ما أسمعه الآن هو تدفق الأفكار التي تسكنني وأود الانتصار عليها، تنغلق نافذة البصر عندي، وتنفتح نافذة الرؤية الداخلية.

لقد تمكن الصمت من أن يثبتني في مكان لم يعد بوسعي الخروج منه إلا أنَّه في لحظة خارقة، من تلك التي تعشش في القلب لمدة طويلة، تخرج صرخة لا يتحملها حتى الجسد المرتخي على كرسي الخيزران، وتنسف السكون من أساسه، ويراودني حنيني القاتل إلى أمي، لا أعرف كيف صرخت، ثمة دندنة أو ربما كلمة بقيت مهملة في ركن قصي من نفسي هي التي جعلتني أنهض بتلك القوة وأبحث بين تفاصيلي عن أمي ذلك الحب الكبير الذي احتفظ به منذ سنين طويلة، ولم أشعر به، في الحقيقة، ما أبحث عنه، كان هناك في كل زوايا حياتي، مرت ثوان دون أن أسمع أي صوت، ما عدا بعض التمتمات الغامضة التي تخبرني أنني لن أراك مجدداً. تخيلتها وكدت أفقد صبري عندما هدر صوتها الدافئ إلي كأنه قادم من أماكن طفولتي، وأضحت أمي نقطة متناهية في الصغر، في تلك اللحظة، بدأت أعي نفسي وركضت وأنا أنظر إلى الجدران بخوف وهلع لا مثيل لهما، وتذكرت جملة كنت قد قرأتها من محمود درويش وكثيرا كان لها وقع في داخلي يقول : (أمي كانت شيئاً آخر لا يشبه إلا نفسه ولا يتكرر) ، وأصل ولا أرى شيئاً غير جسد مسجى بلا روح تلك هي الحقيقة الوحيدة التي ستلازمني مدى حياتي، هي موت ..أمي .

فيعود الصمت وينسل بهدوء.

عرض مقالات: