اخر الاخبار

في حقيبتي، حقيبة جلد أخرى صغيرة بحجم كتاب جيب عثرتُ عليه مرّة في إحدى “بسطيات” الكتب التي تفترش الأرصفة في شارع المتنبي ,كان اول كتاب اقتنيه من سلسلة طويلة فيما بعد لتعلم اللغة البرتغالية. طبعة الكتاب قديمة و بورق اسمر خشن قليلا وفيما أنا أقلّب صفحاته اكتشفت أنّ يدا غير يدي لم تفتحه فطيات أوراقه كانت ماتزال ملتصقة ببعضها احتاجت الى مشرط رقيق لفصلها وكنت كلما قلبت صفحة منه انكسرت او انثلمت قليلا فيقفز قلبي معها. وفي ذات ظهيرة بدَتْ مثل شمس أخرى أسفل الشمس الأمّ التي راحت تسفح ألوانها حزمة حزمة مثل بكاء غزير بمناديل ملوّنة خلف نافذة واسعة زجاجها مضلّع، في تلك الظهيرة من الشمس الأخرى وانا جالسة بعد مضيّ أكثر من عشرة أعوام على وقوفي أمام تلك “البسطية “، وفي المحطة الرئيسية لنقل المسافرين بانتظارالحافلة التي كانت ستقلني من برازيليا الى سانباولو  خطر لي ان اخرج الكتاب من حافظته الجلدية حيث أخبّئه وكل حطام رقاقاته خوف أن يتعرّض الى هدر اكبر، ثم جعلت أنفخ اوراقه بنَفَس ٍرفيق لتنقلب مثل جذع شجرة طاعنة امتصت النمال روحها كلها حتى ابعد تجويف فيها.. فجأة امتدت يد امرأة وجعلت تحيد نَفَسي عن الكتاب وهي تقول: ارجوك ِ.. سيموت !.ثم أخرجتْ من حقيبتها قصاصات صغيرة جدا لاصقة فاقعة الصفرة وراحت تناولني إياها: 

   - اكتبي ملاحظاتك هنا كلما وددت القراءة أوالتعليق ! 

تناولت القصاصات بامتنان وانا أحرك كرسيّا فارغا قبالتي باتجاهها من دون أن أرفع نظري عن كتاب ضخم كانت تسنده الى صدرها بإحدى يديها بقوة فيما حطّت يدها الأخرى بخفّة على الكرسيّ مثل طائر واهن وعيناها تحلّقان بشرود صوب ساعة على الحائط المواجه،كنت أريد أن أقول لها شيئا..اشكرها مثلا.. أدعوها للجلوس لكنها قاطعتني قبل أن أتكلم:

 - سأعود بعد قليل ارجوك لاتدعي احدا يجلس هنا..ممكن!!

فأحنيت رأسي موافقة مع ابتسامة : بالتأكيد!

مرّ زهاء الساعتين ولم تعد السيدة.أزعجتني نادلة “الكافيه” وهي تمشي بممسحتها على البلاط وتطرد جيئة وذهابا بضع حمامات نزلن من سقف بهو المحطة الشاهق الى حيث تناثرت فتات الخبز بين الموائد ,انزعجتُ اكثر حين وجدتها تبالغ في سلوكها فترفع المكنسة وتركض ضاحكة وراء الحمامات.. إذ ذاك هممتُ أفتّتُ قطعة خبز لينهال عليها بمرح حشد حمام جائع وقد ضجّ البهو بهديله وانا ازيد له بالفتات والنادلة تعاود بلا مبالاة طرده فقلت لها في قلبي: اذهبي الى الجحيم   إذن!.. وأخرجتُ رغيفا اخر لأفتّتهُ فيما ذهبتْ (إلى... ) اليها مثل ثلاث لآلئ ثلج بينما بقي الجحيم يستعر في قلبي وهي تواصل باستهتار طردها للحمام ,في تلك الآناء وصلتْ الحافلة وتهيّاتُ للنهوض وانا اعيد الكتاب الى حافظته ببطء واغلق عليه حقيبتي ببطء أشدّ متلفتة من حولي صوب الحمامات اللائي التهمن كل الفتات في تحدّ رائع للنادلة التي انسحبت تجرّ وراءها خيبتها وممسحتها. عندذاك قرّرتُ ان أنتظر لهنيهة فقد تصل السيدة في أيّة لحظة لكن.. عبثا..انتهت الهنيهة ولم يلح أيّ أثر لها.كنتُ آخر من ارتقى سلالم الحافلة وقد فرغت صالة الانتظار من المسافرين إلاّ من سيدة لم تصل ظلّت تفتت الخبز وحمام يلتم ويتفرق.

عرض مقالات: