اخر الاخبار

صباحًا وقبل بدء الدوام الرسمي في مدرسة  “ العرفان” الريفية للبنين، الواقعة على الجانب الشرقي لنهر الهدام العظيم، رسا الزورق البخاري، وسلّم قائدُه فرّاشَ المدرسة الذي كان حاضراً على الشاطىء آنذاك،مظروفاً أسمر مغلقاً، سلّمه هذا بدوره الى مدير المدرسة،  يتضمن كتاباً يستدعيني فيه متصرف اللواء - لواءالعمارة- للمثول أمامه . ولأنني أعرف نزوات ذلك المدير الصبيانية، والهزيلة في اغلب الاحيان ، تسلل الى نفسي يقين بأنه كتبت قريراً عني، تطلّب وقوفي امام متصرف اللواء. في اليوم المحدد للمقابلة، اتخذت زورقاً بخارياً وعبر “ الهدام” عينه الى ناحية الميمونة، ثم توجهت الى المدينة، ومن هناك الى المتصرفية للمقابلة. هناك توجهتُ اول ما توجهت الى رئيس الملاحظين واسمه كما أتذكر “محسن زويلف “ وسألته؛ لماذاالمتصرف وليس مدير التربية العام؛ مرجعي المباشر والأول؟ أجابني بهدوء ما زلت استشعر دفءه ؛ والله لا أعلم، ولكنني أنصحك بأن تكون هادئاً أمامه ، لأنه في الأساس ضابط شرطة كبير منقول من مدينته الشمالية الى مدينتنا هذه، نفياً وليس ترقيةً كما يلوح لك. لذافهو منفعل، عصبي، حادّ المزاج في أغلب الأوقات.

خطوت نحو باب غرفته خطوات وطرقت طرقتين.

جاءني صوته من خلف بابه

أدخل.

سلمت عليه وأردفت دونما انتظار ردّه على سلامي:

انا المعلم فلان كنتم حضرتكم طلبتم استدعائي.

رفع رأسه عالياً لتوكيد حضوري أو حضور قضيتي أمامه وسأل ما أنت ؟

قلت له معلم.. قال:

أقصد انتماءك السياسي.. قلت:

مستقل.. قال:

- قبل ذلك.

قلت: شيوعي.

تأملني طولًا وعرضًا ثم قال:

إنك متهم بما يلي وحسب التقرير الذي أمامي:

تعيق سير التدريس.

تكتّل المعلمين.

تتصل بأولياء أمور التلاميذ.

أجبت، ولكن في اعتداد صادق، ومليء بروح الثقة بالنفس:

أما إعاقة سير التدريس، فلا توجد في مدرستنا إعاقة من أي نوع مطلقًا، ولو حصلتْ بحسب ما يقول التقرير، الأمر ليس كذلك، فلا دخل لي في ذلك لا من قريب ولا من بعيد. وأما تكتيل المعلمين فعلاقتي سوية مع الجميع وبشهادة الجميع، ولكم ان تتثبتوا من ذلك بأكثر من طريق. وأما ما يتعلّق بالاتصال بأولياء أمور التلاميذ، فهذا ما لا أنكره، فهو من صلب عملي التربوي والتعليمي،لأنه ينصب على معرفة أسباب تخلف بعض التلاميذ الدراسي، أو غيابهم وانقطاعهم عن الدوام، وتداول علاج ذلك بين المدرسة والبيت، وليس أكثر من ذلك، وعلى كل ما صدر مني شهود حضور. تقدم بجسده للأمام وكاد يلامس به زجاج منضدته اللامعة، وحدق بي حتى راودني شعور بأنه سينهض نحوي، ثم ما لبث بعد ذلك أن قال وقد تراخى قليلًا أو هكذا، وهو يصوّب نظره نحوي باستمرار:

كنت قررت نفيك الى الشمال حيث مدارس القرى في السفوح وعلى ذرى الجبال، وأنت تعرف مشقة الحياةهناك، لكن من حسن حظك أنني آثرت رؤيتك قبل ذلك.

قبل أن يقول تفضل ويشير الى الباب المغلق، عطف قائلًا:

- أوَ ما زلت شيوعياً؟

ولكي أخفف من غلوائه، أجبتُ:

- المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين.

عاد بجسده الى قراره على قوس كرسيه الجلد لحظة، وكاد يبتسم بيد أنه عاد به الى الأمام ، وأطلق صوتاً تهكمياً بيقين راسخ:

والله أنتم الشيوعيين، تلدغون من الجحور عشر مرات..

كلام المتصرف صح فمساء ذلك اليوم كنت على موعد مع ثلة من الفلاحين، وربما مع المعلمين كذلك.

عرض مقالات: