اخر الاخبار

عيون هيفا

قل

لمن يسرق عيون هيفا

من عيوني

في وضح النهار

هل تذبل أو تموت

جذور الأشجار

حين تُسرَق الثمار

وهل تنطفئ الشمس

بالمطر

أو يحترقُ الماءُ

بالنار؟

علّمتني عيونُ هيفا

كيف أرى

وكيف أهوى

وأبحث عن الأعمى

فأمنحه عيونَ

هيفا

يا أيتها العيون التي

أشعّتِ الضوءَعلى كتابي

أنطقتِ كلَّ حروفي

ويا أيتها الشمس التي

مزّقتْ ظلامَ غربتي

عرّفتِني  دربَ الخروجِ

من خريفي

ويا أيتها العيون التي

عمّدتْ جسدي

طهَّرتِ كلَّ ذنوبي

وأمّنتِني من

قلقي وخوفي…             

تمثل قصيدة “عيون هيفا” لموفق ساوا  قطب الرحى ضمن ثلاث  قصائد هي “هيفا”عيون هيفا ، مصباحا خذيني ، كانت فيها “هيفا” مصدر الوحي والالهام ووجدانية يتغنى فيها الشاعر بحبه وحبيبته ،وما هذا بجديد في الشعر و الحياة، لكن القراءة المتمعنة  ستبين أن هيفا ليست مجرد امرأة  ملكت عيناها على الشاعركيانه بل هي لفيف من الدلالات و الرموز،وأن الخفي من المعاني أكبر و أعمق مما ظهر منها .

  لن تتردد ذاكرة أي قارىء للقصيدة في مستوى العنوان من استحضار قصيدة  لويس أراغون “عيون إلزا” الذي كان عضوا بارزا في الحزب الشيوعي الفرنسي والمقاومة الفرنسية، عرف بأعماله السريالية واعتبر شاعر المقاومة و الحب) حيث تغني في حبيبته ورفيقة دربه إلزا تريولي .ولا أنوي بهذا التذكير إنشاء قراءة مقارنية بين القصيدتين و لكني أحب أن أبين  أن  التماثل في العناوين  و التصوير السريالي ليس من باب توارد الخواطر بل هو اختيار واع و متعمد من موفق ساوا فللشاعرين الفكر نفسه، وقد كتب كل منهما قصيدته في ظروف تاريخية صعبة: أراغون كتب قصيدته عيون إلزا أثناء الحرب العالمية الثانية و كتبت عيون هيفا في فترة اضطهاد الشيوعيين و ملاحقتهم في العراق ،كل منهما إذن غاص  بعيني الحبيبة  في ذاته بأوجاعها و أفراحها ،وربط بين معاناته و كلوم الوطن ،ولعل هذه المقاصد هي التي جعلت الشاعر ساوا يستعمل صيغة الجمع في لفظة” عيون “بدل المثنى إذ كان يفترض أن يقول”عينا هيفا”.

أراغون وموفق ساوا يلتقيان في إيمانهما بضرورة تحويل الأشياء والكلمات إلى أنغام  تخدم الناس  و ترتقي بهم عندما يبلغ  إذلال الانسان و الظلم السياسي أوجه فتكون القصيدة بؤرة الأفراح و الأوجاع، كوجهي عملة  واحدة و تكون  جدار التصدي للعنف السياسي.

“عيون هيفا” قصيدة قصيرة يمكن أن تقرأ بنفس واحد فهي منسابة كانسياب  العاطفة التي صدرت عنها ،المقاطع فيها طويلة مفتوحة   و منذ العنوان يستقبلك  اسم هيفا في نوعية أصواته وتركيبها كنغم تعزفه قيثارة “أرفي “،يشيع في أجواء النص طربا وسحرا وأناقة، لكأنه أجنحة الفراش ترفرف بالحلم تحمله إلى الأبعاد ،تهدهد به الكائنات أو لكأنه التسابيح تأتيك من بعيد  مع هبات النسيم ،ويعدنا العنوان إلى قصيدة نقرؤها بمشاعرنا لأن السحر لا يقرأ بالكلمات بل نحسه أو لا نحسه. لكن الشاعر لن يتوقف عند الخصائص المادية للعين و لولا وجود المادة الصوتية(ع،ي،ن) لما جزمنا بأن  مدار الحديث هو العيون التي تتخذ في العادة الشعرية مدخلا الى وصف الحبيبة  وذكر الوجد: إن العيون التي في طرفها حور.    قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

بل سنتبين بعد  تفكيك آليات القول أن الشاعر لا يكتب نصا في الحب بقدر ما يكتب  نصا ملتزما(ككل نصوصه)  وانه لا يستمد مادته الشعرية من العين بل هو يشحن العين بما يريد من المعاني فتتحول من هدف  الى وسيلة ويصبح الوجد كعمق للوحة زيتية في الفن التشكيلي يساعدعلى إبراز الموضوع الرئيسي.

يعمد الشاعر الى المراوحة بين الأسلوبين الانشائي و الخبري (الانشاء يؤطر الخبر) وذلك يخدم جمالية النص فالخروج من الانشاء الى الخبر والعودة اليه يضفي ديناميكية على  الايقاع  لكن الهدف في الحقيقة يتجاوز الجمالية الى التاكيد على علاقة الانصهار بين عيني “الهو” وال”هي”،أو هي علاقة احتواء يبرهن على قيمة الحبيبة ،ألسنا نقول عن كل من يعز علينا فنحفظه ونخشى عليه”يا عيوني”

قل

لمن يسرق عيون هيفا

من عيوني

في وضح النهار

ويؤكد المعنى البلاغي للانشاء هذا المعنى اي استحالة التفريق بين العيون التي سكنت إلى بعضها البعض وداخل بعضها البعض .

أليست هذه الانطلاقة الشعرية ذات وجهين فعلى قدر التلاحم بين “هو”و”هي”يكمن بين السطور خوف من التفرقة و الانفصال    ويأتي فعل”يسرق”مكررا في النص ليكشف هذا التضارب في احاسيس الشاعر،وستخرج منه لتعود إليه جملة من الصورالقائمة على الاستعارة التي ستوسع الحقل الدلالي للصور الشعرية كما ستنزاح بها الى الترميز ، مرجعيتهاالطبيعة و تنتظم في ثلاثة  معاجم :

- المعجم الاول:جذور الأشجار-الشمس-الماء:يمثل كل ما هو ثابت وهو أصل الحياة

- المعجم الثاني:الثمار-المطر-النار يمثل ماهو عرضي ،زائل (ارتباط هذه العناصر بحرف الجر(ب) يدل على انها وسائل للفعل.

- المعجم الثالث: معجم الأفعال: تسرق ، تذبل، تموت، تنطفئ، تحترق وتذهب الى معنى  القضاء على الحياة .

نستنتج إذن ان عيون هيفا قد اتخذت بعدا آخر في النص فهي  أصل الحياة و هي الأرض التي يتجذر فيها الشاعر ، هي الوطن الذي يحويه فيحميه،وخوف الشاعر إنما على وطنه أن يسرق في وضح النهار لكنه -وبما سبق تحديده من علاقته بعيون هيفا- سيتصدى للسارق ان يأخذ منه حبيبته.

هل تذبل أو تموت

جذور الأشجار

حين تسرق الثمار

وهل تنطفئ الشمس

بالمطر

أو يحترق الماء

بالنار؟

إذا تقدمنا مع النص أكثر  نتبين أن ل”عيون هيفا” تحمل دورا تعليميا فهي التي فتحت  عيني الشاعر على الحقائق و كنه الأشياء ،وضعته في دائرة الضوء مما يحيط به، فاذا كان من وجوه هيفا أنها الأرض و الوطن فهو سيتعلم منها

“كيف يرى

وكيف يهوى”

يرى ببصيرته ما يحاك للوطن من خيانة و ما يعانيه الكادحون من فقر و تجهيل و تبعا لذلك سيرشح لأن يلعب دوره التحسيسي التوعوي بوصفه شاعرا ملتزما :

ابحث عن الأعمى

فأمنحه عيون

هيفا

ترن بين سطوره سيرة عيسى ابن مريم الذي كان  يشفي الأعمى و الأكمه فتكون معجزاته دافعا الى الإيمان به ولن يكون إيمان ما دام في النفس علة، كذلك لن يؤمن شعب بقضيته ما دام في التبصر و الإبصار علة  .

              هيفا إذن هي العقل الواعي للشاعر

لذلك لا يمكن أن تفاجئنا نبرة الابتهال  في استعمال النداء الدال على المناجاة و ما يسبغه ذلك على حورية الإلهام هيفا من تقديس يتأكد بظاهرة أسلوبية أخرى هي التناص الصريح و الضمني .اذ يتداخل مع ملفوظ الشاعر ملفوظ ديني  و صور لها أيقاعها في الانجيل وحتى القرآن.

(فتنطق حروفه )كما نطق المسيح في المهد ليفحم المتشككين  و ال(تعميد)و المعمودية انما يتمثل في موت يسوع المسيح وقيامته في الحياة الجديدة،  ولم يتعمد المسيح من ذنوبه فقط بل من ذنوب البشرية كلها .

أليس التماثل واضحا ؟

اصبحت “عيون هيفا” كالروح القدس  عمدت الشاعر وبعثته-وقد كان ميتا- بالكتاب يعلم الناس، متحررا من”قلقه و خوفه”،متجاوزا “غربته و خريفه” أي كل المعيقات الذاتية:

يا أيتها العيون التي

عمدت جسدي

تطهيرا

أمّنتني من

قلقي وخوفي

هيفا هي القوة الكامنة فيه ،هي إيمانه بنفسه، برسالته شاعرا تقدميا ملتزما ،هي دافعه إلى التطهر من الجبن و العجزليخوض معركته المصيرية ،معركة الدفاع عن وطن “يسرق في وضح النهار”.

سيولد من هيفا ولادةَ المسيح من مريم و لن يكون له وجود خارج وجود هيفا .

بها يكون ،معها يكون و من اجلها يكون.

“عيون هيفا”. حبلى بالرموز ،و الرموز حبلى برؤى الشاعر .

عرض مقالات: