اخر الاخبار

أنت تشعر بدفق تدريجي للمتعة، أو السأم، أو الكآبة، أيا كان الشعور، وهو غزير غزارة لم تحلم بها أبدا. ربما كنت ستستطيع احتواءه لو كانت يداك تستطيعان احتواء بحيرة. وهكذا تستسلم وتشهق. مريئك ينفتح، وحجابك الحاجز يتسع. إن جسدك، وهو موازن على شفير الزفير، على وشك أن يتحرر من العبء، لحظة بعد لحظة، خلية بعد خلية. غلاية تهسهس، بالون يتفرغ، كتفاك يسقطان مثل إجاصتين ناضجتين، والعضلات ترتخي أخيرا. تحدق أمي من نافذة المطبخ الى الخارج، يقطر رماد من سيجارتها ويقع في  حوض غسل الأواني. أدارت ظهرها الى باقي البيت حارسا يحرس عزلتها. مشيت على أطراف أصابعي عبر مشمع الأرضية وأعددت غدائي من دون أن أصدر صوتا. أحيانا أرى ظهرها يتسع، ثم أسمعها تفلت نغمة غائرة، تنهيدة بالغة الطول ومرهقة ربما كانت هي آخر تنهيداتها. فيما وراء باحتنا الخلفية، فوق أعمدة الهاتف وبنايات الشقق، يرتفع أفق المدينة البني، وقد يصادف أن ينزلق عبره طائر، أو منطاد عليه إعلان إطارات (ﮔﻮديير). ربما انجرفت أمي في النأي، أو ندبت افتراقها عنه. ربما كانت تتمنى لو أنها كانت في مكان آخر، أو تتمنى لو أنها استطاعت أن تكون سعيدة حيث هي، ربة بيت متوسطة العمر تحلم عند حوض غسل أوانيها.

تنهدات أبي كانت أكثر غنائية. التنهيدةً التي تبدأ  رزينة  قد تتغير نغمتها، تصير اندفاعا منفلتا، توحي بتحولها ذاته أن ما بدأ حزنا قد ينتهي راحة، يستطيع أن يمد الحرف الصائت المدور للفظ “أوي” ، أو يسمح له بأن يرتد كصدى، كما لو أنه يصيح في نفق أو كهف. وحيث تنهدت أمي من حزن لا يوصف فإن أبي تنهد لأشياء بسيطة.. برودة شراب، نعومة وسادة، أو حِكة تعثر عليها أمي على ظهره، متتبعة خارطة كلماته شديدة الإهتياج، وتحكها.

ذكر لي صديق ذات مرة أني أسلم نفسي الى تنهدات طويلة ومضجرة، وما أن وعيت على هذه العادة حتى انتبهت الى أن أبي يتنهد تنهيدتي وعرفت للحظة ارتياحاته الصغيرة، وفي أحيان أخرى أشعر بقلق أمي وتمنيت أن أترك جسدي مع أنفاسي، أو أكون سعيدا بجسد خلَّف أنفاسه وراءه. إنها فعل لا إرادي وميراث، كائنات التنفس المفعمة بالعاطفة هذه. إصغ عن كثب: رئات أسلافي تضخ مثل منافيخ، رجال يقطرون بالحبال قوارب على طول ضفاف نهر الفولغا، ونساء يسحبن سلالا مليئة بخبز الجاودار وسمك الكراكي. في نهاية كل يوم  يرفعون أذرعهم المتعبة بالأنخاب، وكما لو كان شكرانا لحرارة ولذع الفودكا مركَّزا في الهواء الروسي البارد.

لا بد من وجوده في كل لحظة، آلاف من الناس يتنهدون. رجل في (ميلووكي) يطلق تنهيدة ويرتعش ويضع يده مباركا على رأس زوجته الثانية تنهدات ذات مغزى ينفثها تلاميذ، ومعلمو سياقة، وخبراء قضائيون، ومحاسبون قانونيون، وأطباء أسنان، ناهيك عن آخرين. تنهدات الأرامل وحدها يجب أن يُحسب لها حسابا لإطلاقها نسبة مهمة من ثاني أوكسيد الكاربون في الغلاف الجوي. كل مرة يزاح فيها مشهد امرأة، قد تميل الى التفكير بأن سرعة الحركة المطلقة لهذه الأنفاس تسبب ريحا شمالية باردة عنيفة، وريحا حارة مزعجة، وأعاصير، وتتدافع الأسهم على خرائط الأقمار الصناعية، وخبراء الطقس الذين مِيلهم يُقطع في دقيقة، ترفرف الأربطة من أعناقهم كالرايات.

قبل أن أعرف أن سجناء من أهل مدينة البندقية أقتيدوا عبرها لإعدامهم، تخيلت أن جسر التنهدات عمل فذ لهندسة غير مرئية، بناء يقفز فوق الأرض على شكل قنطرة، عوارضه وروافده، حبال التثبيت والأسلاك الغليظة، الأثقال الموازنة وحواجز الأمان، تصل أنفاس إنسان بأنفاس الإنسان الذي يليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي وكاتب قصص أميركي.

عرض مقالات: