تضعنا مجموعة القاص ناظم علاوي القصصية "مجرد حرب"، أمام مفارقة سوداء حينما صدّرت عنوانها المكون من كلمتين دالتين، بكلمة "مجرد" تهويناً ساخراً لمجريات حرب مهلكة سحقت بأسنان من حديد لحم وعظام، جنود من بلدين متحاربين، وحولت لطبيعتها الماساوية العاقل إلى مجنون. قصة "٣٦٩١".
تعدّ هذه المجموعة، المجموعة الفريدة، التي تستدعي حرباً مضى عليها ما يقرب من أربعة عقود، وقد تباعدت آثارها المباشرة بعد ان حلّت على البلد حروب غيرها، لا تختلف عنها في ماساويتها ودمويتها، ان لم تكن زادت عليها.
وفي الحقيقة تعلن قصص المجموعة هذه عن هويتها، منذ توطئتها "السرد غبار المعارك"، فهو اذن ، اي السرد هنا، غبار سنابك الخيول التي ستعجّ بها الساحة القصصية التي هي ساحة حرب عنيفة، وليست ساحة سلام!
والتوطئة هنا، هي التمهيد لما سيحصل لاحقًا على متون تجارب حيّة نابضة بحقائق ووقائع لا تُنسى، يهال فيها الدم على الاجساد، كما يهال الرمل على الرؤوس في مواضع القتال.
تنتمي هذه القصص بمجملها، سوى القصة الأولى لقصص الحرب بامتياز يعيد إلى نفوسنا، ذلك الكره الشديد لموجة مجنونة سلبت منا أحبتنا، وخلفت فينا أشد الآلام الإنسانية على الإطلاق.
ليس من شك في أن الأسئلة كانت تتداعى سواء في ساحات الحرب الطاحنة، او الساحات الأخرى ، وأبرزها الثقافية، لماذا يحصل هذا وأين الربح والخسارة حينما يجري الدم مجرى الأنهار ؟ ومن يتحمل هذه المسؤولية الجسيمة، وكيف يأكل ويشرب وأي صنف هو من الناس!
تبدأ المجموعة بقصة "زلال الذاكرة" التي يفضي عنوانها إلى نبل العلاقة التي تربط أخاً بأخيه، وما كان يحصل بينهما من رعاية تنوب عن رعاية الاب الكبير.
تدور أحداث هذه القصة وهي قصة واقعية تأتي على هيئة مرثية واسعة يرثي بها القاص ناظم علاوي، أخاه الشاعر والمؤرخ مزاحم علاوي، حين يقف على جثمانه، مستحضراً حياة كاملة في تداعيات سردية غنية، تناوبت فيها ضمائر السرد ما أكسبها حيوية تفتقر اليها قصة السرد الخيطي بطبيعة الحال.
وبرغم مشهدية الموت وما يسبغه على المتلقي من ضيق في النفس، وكآبة في الخاطر، فلقد اتسعت هنا نفس الأخ، وهو القاص هنا، لتستذكر مواقف وأحداثاً مؤثرة بعيدة وقريبة، أفرزت مشاعر مقابلة لدى المتلقي ووضعته في راهن ساخن كأنه يحدث الآن.
باستثناء هذه القصة، فقد انطوت القصص اللاحقة على موضوعة الحرب ، مطحنةً هائلةً تدور كما لو وحدها، وإفرازاتها وتداعياتها المختلفة والمتباينة، وانعكاساتها الخاصة والعامة على حياة الناس بعامةٍ، من دون رادع يردعها.
لقد كثرت في صفحات هذه القصص مفردات؛ المواضع، والحفر ، والشقوق الأرضية، والدم، واللحم، والعظم، والرمال، والمفازات والسواتر وخطوط النار، والجنود والثكالى والقتلى والجرحى، فضلاً عن أنواع الاسلحة وآليات الدمار الشامل، كالمدافع والدبابات والصواريخ والطائرات، وحلت محل المدارس والتلاميذ والحدائق والساحات والألعاب، فاذا عرضتْ هذه فلمجرد تاثيث سريع ما يلبث ان يتوارى، فكان كل ذلك يثير الفزع والقرف على حدّ سواء.
في مثل هذا المحفل الذي يكتنف ساحة الفن القصصي، قد يتوارى الواقع خلف الاسطورة في تبادلية غير متكافئة أحياناً كما حصل ذلك في قصة "العراء .. أيها الوطن الخالد" التي بدأت واقعية بمجملها ثم انعطفت في نهايتها نحو الأسطورة دونما مبرر ودونما تمهيد، ومع ذلك يمكن عدّ هذه القصة من أبلغ قصص الحرب.
ولعل ما يؤثر في هذه القصص أن فيها "يتساوي إحساسان متناقضان معاً؛ تفاهة الحياة والحرص عليها" وفي هذا تتجسد مفارقة تضع عقل الانسان في محنة وامتحان؛ إذ كيف نكره الشيء وكيف نسعى اليه في آن ؟ واعتقد ان لا جواب على ذلك حتى تنتهي كل الحروب، أو يفنى كل البشر، وكلاهما مستحيل حسب معطيات حياة مستفحل فيها الشر، وبشر يزدادون في متوالية هندسية، حسب مالتوس.
تميل قصص المجموعة إلى النهايات المفتوحة ، تاركة التأويل يأخذ مداه الشخصي وبحسب ما يصل اليه الحس الثقافي للمتلقي نفسه. وهنا يصبح اللا إتفاق اتفاقاً محضاً تتوالى على مساحته الشاسعة اجتهادات شتى. يتجسد هذا في قصة الحرب "مراباة" التي تنتهي بهذه العبارة: "كالمجانين فتحنا أفواه مدافعنا .. هرب الرصاص شارداً دون توقف. نار تأكل كل شيء" وهي، أي هذه القصص تنم عن معرفة تفصيلية، سواء بالواقع الخاص بمفردات الحرب، أم بمفردات الحياة العامة، ليتحدد على وفق ذلك القرب أو البعد النفسي من الحدث القصصي.
ولعل هذا يظهر جلياً على القصص ذات الطابع الحقيقي، الذي يتباشر فيه الموضوع ببعديه المعيش والافتراضي، كما في قصة "زلال الذاكرة" التي سبق الحديث عنها، وقصة "الخيبة المتأخرة" التي يهديها القاص علاوي، الى صديقه الراحل "سالم حسين محمد علي" الذي تأكله الحرب وهو في أولى سني زواجه، بحسب ما تبينه أحداث القصة المؤلمة.
واذا كان لنا أن نفكر كثيراً أو قليلاً وبحسب ما للحرب من تأثير متفاوت علينا، فلن ننسى القصة الاخيرة من المجموعة التي يختلط فيها عقل بطلها، بفعل التعذيب السياسي، ليحمل الرقم ٣٦٩١ بديلاً عن اسمه "كريم" وهويته التي يتآزر عليه فيها الجاحدون من الناس ورزيّة الحرب وقسوتها على تحويل العاقل الى مجنون.
غير ان الحرب هذه او غيرها، بما امتلكت من قوة تدميرية، ظلت ضعيفة أمام اسماء ظلت ثابتة وستظل مثل سالم ورياض واحمد وغيرها، وأنّ الإنسانية ان اتفقت على شيء فعلى كره الحرب، حيث الهدم والخراب، وبالمقابل على حبّ السلام، حيث البناء والأغاني والأناشيد.