"بعيدا عن الوطن " 1996 عنوان فلمه السينمائي الوثائقي الذي حصد العديد من الجوائز السينمائية وأكد حضوره كمخرج يعمل على صناعة أفلام بديلة هو أقرب لحياة قيس الزبيدي ( 1939- 1-ديسمبر 2024) التي قضاها من منفى الى منفى يبحث عن وطناً ولم يجد الا السينما وطناً. وما بين لحظة تفتح الوعي وحتى مغادرته هذه الدنيا تنقل كثيرا" في العالم بغداد بيروت سوريا المانيا الامارات تونس ولم يستقر الا في أيامه الأخيرة في المانيا بعد ان لفظته بلاد العرب عندما تقطعت الخيوط واختلفت التوجهات واختلط الحابل بالنابل تحت شعارات ملغومة واهداف مشبوهة وهو الذي عرف بالتزامه بقضايا المنطقة وانتمائه لها وايمانه بالإنسان كقيمة عليا . قيس تشرب المهنة والعمل السينمائي منذ صغره درس المونتاج في المعهد العالي للسينما في بابلسبيرغ/ بوتسدام في ألمانيا الديموقراطية مستشهداً بذاكرته بنص كتبه بودوفكين ومترجم للعربية ، وبالتحديد جملة تقول" إن المونتاج هو القوة الخالقة لكيان الفيلم" هي التي دفعته لأن يقرر دراسة المونتاج ويحصل على دبلوم مونتاج عام 1964 ويعود لنفس المعهد ليدرس التصوير ويتخرج منه عام 1969 بدرجة دبلوم وليخرج في نفس العام فيلمه "بعيدا" عن الوطن " الذي نال احدى جوائز مهرجان لايبزك للفيلم الوثائقي والذي كان هذا المهرجان نافذة مفتوحة على العالم وهناك اكتشف الزبيدي قيمة الفيلم الوثائقي كما قال الزبيدي وكان هذا المهرجان ملتقى للسينمائيين العرب ومدرسة ينهل من عروضه السينمائية والفكرية "قدم قيس أيضا"وطن الأسلاك الشائكة" (1980)، و"فلسطين سجل شعب"(1984) كما كتب وأخرج فيلمه الروائي التجريبي الطويل "اليازرلي" (1974)، وتمكن قيس الزبيدي وبسبب خلفيته الفكرية والسينمائية الرصينة والمتقدمة من انجاز مجموعة من الأفلام السينمائية التي قدمت الواقع الفلسطيني بشكل بعيد عن الوصاية والتعبوية وبعيداً عن الاعلام الرسمي السائد آنذاك منطلقاً من انتمائه اليساري وثقافته وخلفيته السينمائية المتطورة والمنتمية لقضايا الانسان العادلة وكان من الضروري تقديم مثل هذه القضايا بوعي وبرؤيا نافذة للأعلام الغربي ، من هذه الأفلام "الزيارة" عام 1970 و"شهادة الأطفال في زمن الحرب" عام 1972" "نداء الأرض" عام 1976 و"صوت من القدس" عام 1977. وقام بمونتاج العديد من الأفلام المهمة لزملائه المخرجين السوريين منهم محمد شاهين ونبيل المالح ومروان المؤذن، وتعاون قيس لاحقاً كمونتير في الفيلم التسجيلي "الحياة اليومية في قرية سورية" مع الراحلين سعدالله ونوس وعمر أميرالاي، وصولاً إلى تعاونه مع كل من وديع يوسف في فيلم "رقص شعبي والعراقي قاسم حول في فيلمه "اليد"، ومع الأردني عدنان مدانات في فيلميه "التكية السليمانية" و"لحن لعدة فصول"، كما أنجز مع اللبناني كريستيان غازي فيلمه التجريبي "مئة وجه ليوم واحد.".وأسس قيس الزبيدي منهجا نقديا متفردا. وأسس "الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني" بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي في برلين بألمانيا، وساهم بشكل كبير في توثيق تاريخ السينما الفلسطينية. كل هذا التاريخ السينمائي والنضالي ارتبط بصورة قيس الذي التقيت به في بغداد عام 2015 ودعوته لاحتفاء به ضمن موسم جعفر علي السينمائي التي اقامته رابطة السينمائيين العراقيين مع عرض فيلمه "بعيداً عن الوطن " والحديث عن تجربته السينمائية لأني كنت اعرف ان الكثير من السينمائيين العراقيين وخصوصا" الشباب يجهلون قيس الزبيدي سينمائيا ً وحتى كاتباً ومنظراً للسينما البديلة وله العديد من الاصدرات في الفن السينمائي منها (بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني ودرامية التغيير :برتولت بريشت والمرئي والمسموع في السينما ومونوغرافيات في نظرية وتاريخ صورة الفيلم والفيلم التسجيلي وواقعية بلا ضفاف ودراسة في بنية الوسيط السينمائي ). واظن ان الاحتفاء بقيس الزبيدي في بغداد كان الأول والأخير رغم بساطته وتواضعه لكنه كان كبير بحضوره وزملائه من السينمائيين وأصدقائه، قدمت قيس الزبيدي للحاضرين باعتباره رائد من رواد السينما البديلة وهو الذي اطلق هذا التيار مع زملائه محمد ملص وعمر اميرالاي ونبيل المالح في مهرجان دمشق السينمائي عام 1972 ردا ً على تردي أحوال السينما التجارية المصرية. وقدمت الزبيدي مناضلا" وكانت تجربته مع منظمة التحرير الفلسطينية قد عمقت حسه النضالي واعطته دورا" سوف يأخذ به بعيدا " في دروب القضية ولم يتخلى عنه رغم كل الصعاب حكى لي عن فيلم وثائقي كان يعمل عليه عن المناضل الفلسطيني جورج حبش منذ سنوات لكن المتغيرات الدولية جعلته يتوقف عن اكماله لانهم وضعوا الحكيم في خانة الارهابين و المروجين للإرهاب لذلك توقف تمويل الفيلم . يشرفني ان اكون الوحيد الذي احتفى بالمخرج العراقي الراحل في بغداد والعراق عام 2015 عندما كنت اعد واشرف على موسم جعفر علي السينمائي في بناية القشلة وكنت قد التقيت به بالصدفة. نظمت له احتفالية وعرضنا أحد افلامه وقدمته للجمهور في ظل غياب المؤسسة الرسمية عن مثل هذه المبادرات، وعندما اصدرنا مجلة سومر السينمائي كلفت الاساتذة علاء المفرجي ود. صالح الصحن بالتواصل معه لغرض استكتابه للمجلة وبالفعل نشرنا له اكثر من موضوع وحاولنا من خلاله ان نوثق عطاء السينمائيين العراقيين الذين عملوا في سينما المقاومة وهذا المشروع نحن نعمل عليه بالممكن وقدمنا في أحد اعدادنا الأخير المخرج والمصور سمير نمر الذي رحل في الغربة أيضا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مخرج سينمائي عراقي، رئيس تحرير مجلة "سومر السينمائي".