في جلسة عقدت في بغداد مدينة الابداع الأدبي اليونسكو قبل أكثر من عام طرح الدكتور رشيد هارون مصطلح (الرواية المجهرية) في تناوله لثلاث روايات قدمها القاص والروائي خالد الوادي لم تتجاوز كل منها الثلاث صفحات ، وحينها تحفظت على المصطلح ومدى مطابقته للنص وتساءلت عما يميز هذا العمل عن القصة والقصة القصيرة جدًا لا سيما وأن الرواية عمل سردي وملحمي في أحداثها المتشعبة و شخصياتها المتعددة وبنائها السردي فضلا عن حجمها ،لكنهما أشارا الى أن الأدب بأجناسه المختلفة يتجه الى الايجاز بفعل عوامل متعددة ارتبطت بالعصر مثل وسائل التواصل الاجتماعي وصعوبة قراءة الرواية الطويلة في الوقت الحاضر، وخلال الجلسة الافتراضية التي استضاف فيها المنتدى الأوربي العربي للسنما والمسرح عبر منصة (زوم) الكاتب حميد الحريزي لمناقشة (الرواية القصيرة جدًا) واستعراض ما قدمه في هذا المجال وهوكتابه الذي ضم خمس روايات قصيرة جدا (المقايضة، أرض الزعفران، ،المجهول ،القداحة الحمراء، ومذكرات كلب) أكدت أن هذه المحاولة تدخل في باب التجريب ومحاولة لخلق شكل جديد من الرواية، بوصفها الجنس الأدبي الأكثر قراءة على أن يلبي متطلبات العصر الذي مالت فيه الأجناس الأدبية المختلفة نحو الايجاز والاختصار، وقد اتسعت دائرة المتبنين لهذا الاتجاه فمنهم الشاعر حكمت الحاج ود.حسين المناصرة وحميد عقبي وسمير بية وآخرون وقد طرح أكثرمن مصطلح على هذا الشكل الجديد من الرواية مثل(المجهرية ،المايكرو رواية،الرواية الفلاشية ،الرواية المصغرة، الرواية القصيرة جدأ )، وقد استقر المصطلح الأخير بالتوازي مم مصطلح القصة القصيرة جدًا، وقد تجسد رسوخ الرؤية والرهان على الاستمرارية في البيان الذي تبنى هذا النوع من الرواية الموقع من عدد من كتابها المنشور في موقع (كناية)، الذي أشار فيه الشاعر حكمت الحاج الى أن الرواية القصيرة جدًا توفر فترة راحة للقراء الباحثين عن روايات كاملة مدمجة ومركزة في إطار زمني محدود مما يسمح للقراء بالانغماس في قصة كاملة دون الالتزام برواية طويلة ، وقد تبنت مؤسسة كناية هذا النوع بإطلاق سلسلة (روايات قصيرة جدا) واشترطت الا يزيد عدد كلماتها عن سبعة آلاف كلمة، لكي تمضي المغامرة قُدُما ويكون للمغايرة حدودها، والهدف من هذه السلسلة تقوية المقروئية وتحويل الكتاب في صيغه الورقية والرقمية الى مادة مرافقة يومية لكل إنسان في عالم يعد فيه الوقت سلعة ثمينة،وبذلك تسير الرواية بموازاة خط سير القصة، فمثلما هناك قصة وقصة قصيرة وقصة قصيرة جدا ،هناك رواية ورواية قصيرة التي يتراوح عدد كلماتها بين عشرة الاف وعشرين الف كلمة واهمها رواية (موت في البندقية) للالماني توماس مان 1912 ورواية (الشيخ والبحر) همنغواي 1952، ورواية قصيرة جدا لا تتجاوز السبعة آلاف كلمة خرجت للنور و مازالت في دور التجريب والمغامرة لحين تتسع دائرة الكتابة فيها ورسوخ القناعة النقدية بمشروعيتها فبعد أن كان التنظير النقدي لها مقتصرًا على كتابها أخت تتسع دائرة القراءة والنقد.
وحميد الحريزي يعد من رواد هذا الشكل يرى أن الحياة المعاصرة بما أفرزته من ثورة رقمية وايقاع سريع في شتى المجالات بما في ذلك الثقافة والابداع فضلًا عما رافق ذلك من ضغوط ومنها ضغط الوقت في الفعاليات الإنسانية، في عالم يجري بسرعة كبيرة ،فرض على الأديب أن يلجأ الى الايجاز التكثيف وهذا ما يتجلى في الأدب الوجيز، وفي روايته القصيرة جدا الأخيرة (هذيان محموم ) وهي السادسة يؤكد قناعته بهذا الشكل الجديد.
تنطلق رواية (هذيان محموم )من مرجعية يسارية يتبناها الروائي من خلال شخصية محورية (حامد) الذي يحيل للروائي نفسه وهذا ما يشير اليه الراوي العليم (لأن حامد نغص عليه حياته سواء بالمياشر وغير المباشر عبر نصوصه الشعرية ورواياته وقصصه السردية التي تمزق أقنعة السفلة والجهلة القتلة من المتخلفين والمدعين وسراق مال الشعب) والبطل(حامد) يجد ذاته في ذات (ك) وهو الملحد الذي التقاه في عالم الأموات في طريقة تفكيره وفلسفته في الحياة والموت. فالحدث في هذه الرواية بحسب تقسيم جنيت هي الرحلة الخيالية التي تنقل من خلالها البطل (حامد) بعد فقدانه الوعي ودخوله في الاغماء بسبب حرارة الجو وانقطاع الكهرباء بحثًا عن الثلج، إذ تبدأ الرواية بثلاثة أحداث ازعجت البطل وأخافته وكانت نذير شؤم بالنسبة له وهي سقوط ورقة صفراء، وطنين الذبابة، ومداهمة غرفته من قبل قطيع من الذئاب المكشرة عن أنيابها،وترمز هذه الذئاب للطبقة السياسية التي قضمت خيرات الشعب ونشرت الفوضى في المجتمع ، فالبطل ينتقد الواقع الاجتماعي والسياسي والديني والاقتصادي الذي يعيشه فضلًا عن الممارسات التي تنسب للدين والاعراف والتقاليد القبلية التي تتقاطع مع حرية الفرد وحقوق الانسان بشكل عام والمرأة بشكل خاص، باستدعاء شخصيات عرفت بمواقفها الحادة من كل ذلك (ابو قراط ، المعري،عمر الخيام، ماركس، انجلز )، وإذا كان هذا الشكل بحد ذاته يعد مغامرة فإن جرأة الحريزي في هذه الرواية وما تضمنته من أسئلة عكست قلقًا وجوديًا من خلال تفنيد بعض المقولات الدينية تعد مغامرة أيضًا، إذ يطرح من خلال رحلته الخيالية على غرار رحلة ابي العلاء المعري في رسالة الغفران ورحلة دانتي في الكوميديا الالهية عددًا كبيرًا من الأسئلة التي كانت تؤرقه في الواقع مثل ارجاع الناس الفقر والغنى والسلطة وكل شيء الى الله ، وهو في بثه لهذه الاسئلة واستحضار مقولات شعراء ومفكرين يرى أنهم عاشوا ما يعيشه الآن كالمعري مثلاً.. وينجح الحريزي في استدعاء الشخصيات وتوجيه الاسئلة بحثًا عن اجابات تفسر له الكثير من القضايا التي واجهها في حياته تحت مظلة النقد الاجتماعي، وقد غلب على خطاب الرواية الحجاج والجدل لمقولات فلسفية ودينية كمقولة: (الدين أفيون الشعوب) لماركس ليجيبه ( أن الدين هو تنهيدة المضطهد قلب علم لا قلب له مثلماهو روح وضع شروط بلا روح) وعلى الرغم من أن الكاتب اختارالرواية القصيدة جدا التي تميل الى الايجاز الا انه فصل في نقده لمراسيم التشييع الدفن ومراسيم العزاء وتقديم موائد الطعام وغيرها من الاعراف والتقاليد الدينية والاجتماعية التي لا تعطي قيمة وانسانية للمتوفي وكان يمكن ايجاز ذلك , كما هو الحال في دعوته للقيام بمثل ما تقوم به الشعوب المتحضرة و المتمدنة , في تعاملها في مراسيم التشيع والعزاء, التي تعطي قيمة واحتراماً واعتزازاً للمتوفي, ويعبر هنا عن رأيه بجرأة دون الالتفات بأن بعض هذه المراسيم مرتبطة بقواعد دينية يفرضها دين المتوفى ، ومع ذلك فهو يؤكد على البعد الانساني للأديان السماوية ولا يتقاطع مع التحضر الذي ينشده البطل (حامد)، وهو ما يفتقده الخطاب الديني المهيمن بمقولاته الفكرية ومراسيمه وطقوسه إذ يبتعد أحيانا عن الخطاب الديني. في هذه الرواية تتبين هيمنة الأسئلة التي يطرحها البطل بن الحين والآخر على نفسه وعلى الآخرين الذين يلتقى بهم تحت الأرض، و يفند من خلال هذه الأسئلة حجج الخطاب الديني السائد في عصره,فيأخذه البطل(حامد) على رجال الدين وخطابهم الديني المنافع الي يسعون الى تحقيقها لذلك كان يرى أن الحياة تحت الأرض أفضل من الحياة فوق الأرض مستشهدا بقول ابيقور( أن الموت يحمل السلام والراحة الابدية , أما الحياة فهي تجربة واحدة لن تتكرر ثانية) ورغبة في التعبير عن رفضه للطبقة السياسية وظلمها للانسان فقد كان من بين من التقى بهم البطل (حامد) من عالم الأموات أحد ضحايا ثورة تشرين الذي يخاطب حامد بقوله (فلم تمض عليَّ اكثر من سنة , فقد قتلت في تظاهرات اكتوبر الشبابية المناهضة للسلطة الفاسدة الحاكمة في العراق) وهكذا يبدأ بالسؤال عن دور المراجع الدينية, في هدر أرواح بريئة بالقتل لتقود الحياة الى العدم والغاء الآخر, ومحاربة الجمال والخير ويؤكد ضرورة عدم الخوف من العدم , مستشهدا بقول أبيقور(أيها الانسان لا تخف من العدم لانك كنت سابقاً في العدم , كنت عدماً لمليارات السنين, لا تملك خبرة واحدة للعدم , فكر في كل الزمن الذي مررت به قبل ان تولد ،ص23) فإثارة الأسئلة بأسلوب ساخر ومستفز دون الاهتمام بالإجابات في هذه الرواية تتيح للمتلقي المشاركة في تصور وتخيل إنفعالات الشخصية ومستقبل تطورها وبالتالي يمكن صياغة رواية موازية في مخيلته،وتأتي اللغة المكثفة ذات الدلالة الازدواجية لإيصال الرسالة من خلال التلميج لا التصريح.
يهيمن البعد النفسي والوجودي على شخصية البطل فضلًا عن الشخصيات الأخرى من خلال استبطان عوالمها الداخلية واستعراض تجاربهم المعقدة في سياق حياتي متشابك، لتقف الرواية موضوعات عدة مثل الهوية، والقلق الوجودي، والصراع الداخلي بين الذات والواقع المحيط بأسلوب سردي جمع الكاتب فيه بين تقنيات الرواية التقليدية وتلك التجريبية، مما يخلق إيقاعاً سردياً متسارعاً في بعض الأحيان ومتقطعاً في أحيان أخرى، مما يساهم في خلق حالة من الاضطراب النفسي للشخصيات فرواية (هذيان محموم) لا تقتصر على سرد الأحداث بتسلسل خطي بل تتنقل بين الذكريات واللحظات الآنية(عالم الأموات) بأسلوب يصور التداخل بين الحلم والواقع أماالشخصيات في الرواية فإنها تمثل أصواتاً متعددة من داخل العقل البشري، وهي تسير على حافة الهاوية بين الهذيان والوعي ،أما الشخصية الرئيسية(حامد) فإنها قد تكون مرآة للصراع الوجودي الذي يعاني منه كل فرد في مواجهته مع الواقع والمجتمع ، ويبرز الصراع الداخلي للشخصيات عبر ما تطرحه من أفكار ورؤى والاختيارات التي يتخذونها، والضغوطات التي يتعرضون لها.
وتستعرض الرواية بشكل غير مباشر التحديات التي يواجهها الفرد في البحث عن ذاته و إيجاد هويته وسط عالم مليء بالتناقضات في ظل القلق الوجودي الذي يعكس حالة الخوف الدائم من المستقبل، ومن الوحدة التي يعاني منها الإنسان المعاصر ويأتي (الهذيان) في العنوان ليشكل عتبة تفتح افق التأويل أمام المتلقي للكشف عن معاناة البطل فالفصل بين الوعي واللاوعي لا يبدو واضحًا، مما يثير تساؤلات فلسفية حول ماهية العقل والجنون،أما المكان والزمان فانهما يعكسان الصراع الداخلي للشخصية، فالمكان لا يقتصر على كونه مجرد موقع جغرافي بل هو جزء من التركيبة النفسية للشخصية،وكذلك الزمان الذي لا يتبع فيه الكاتب تسلسلاً تقليدياً بل متداخلًا بين اللحظات المختلفة في الذاكرة والحلم ليحمل دلالة رمزية إذ يوظف الكاتب شخصيات ثانوية كرموز لحالات نفسية أو أفكار معينة،ليحمل الزمان طابعاً رمزياً يعكس هذيان الوجود في ذاته، ويفتح المجال لتأويلات متعددة.
وعلى الرغم من ميل الكاتب الى الاستطراد في توظيف شعر المعري وسرد تفاصيل عدة وهو ما تبتعد عنه الرواية القصيرة جدًا الا أن (هذيان محموم) تمثل تجربة سردية تجمع بين فلسفة الوجود وعمق الشخصية البشرية مما يتطلب من المتلقي التوقف والتأمل في معاني الحياة، الصراع الداخلي، والهويات الممزقة،فهي تقدم منظوراً مختلفا للعالم عن طريق عيون شخصياتها التي تحاول فهم العالم وتفاعلها معه، في إطار سردي مليء بالتوترات النفسية والوجودية.