اخر الاخبار

  بشكلٍ رتيب  كان يجري كلُّ شيء في مطعم أطلس بمدينة البصرة. والكابتن ذي الوجه الموغل في سمرةٍ يشوبها شيء من شحوب يؤدي الأعمال ذاتها، في المطعم الذي صُنف من مطاعم الدرجة الأولى. تعال كابتن، المزيد من الخبز، هات مناديل إضافية، لماذا تأخر الطلب؟

في ليلة ذاك الأربعاء، طلب الكابتن محمد من أمه غسل قميصه الأبيض الذي فقد رونقه قليلاً بسبب الاستعمال “يمه اليوم يجي وفد من بغداد  للمطعم اريد قميصي حلو، ابو المطعم وصانا لازم هدومنا تلمع”

لم ينتبه ليديْ أمه اللتين تضررتا بسبب وضع كمية من الكلور ممزوجاً مع الماء فوق القميص، إنها من نوع الأمهات اللواتي يتعاملن مع أجسادهن بلا اهتمام. لم تخبره عما يشبه وخز الدبابيس في كفيها. بكلّ حرص نشرت القميص داخل المنزل، حرصاً عليه من الغبار وهجمات الذباب.

في الصباح لبس محمد قميصه الذي تم غسله وكيّه بعناية، وقد بدا مقتنعاً أنه هو والقميص في أحسن حالاتهما. لم يكن راضياً فحسب، بل كان مغتبطاً حدّ النشوة، فقد وعدهم المدير بمكافأة جيدة لو تمّت خدمة الوفد بدرجة عالية من الإتقان.

أنها فرصته لشراء موبايل آيفون برو ماكس الذي نزل للتو في الأسواق. لن يعود الهاتف حلماً، فهو يملك الجزء الأكبر من ثمنه، والجزء  المتبقّي سيحصل عليه بعد أن يكسب المكافأة الموعودة. ساعتها سيرمي جوّاله الذي بالكاد يحصل منه على اتصالٍ مريح.

ثمة طقوس خاصة بالمطعم عند استقبال الوفود. أخذ محمد مكانه، ساعة الغداء، قرب طاولات الطعام الخاصة بالضيوف الذين بدأوا يتوافدون. ما إن يجلس الضيوف حتى يسارع محمد إلى القيام بعمله، وهو سكب الماء في الأقداح، ثم وضع شرائح الليمون فيها. هكذا تتم الأمور، قبل أن يبدأ لاحقاً توزيع أطباق المقبلات بأنواعها، تمهيداً لتقديم وجبة الغداء.

في المطبخ، حيث يتحرك العمال بدقة وانتظام كما لو كانوا فرقة موسيقية، جلس محمد بزاوية بعيدة يُجري اتصاله الهاتفي بصعوبة،  مستغلاً فرصة تناول الضيوف لطعامهم، ما إن ابتسم لصديقته وهو يحكي لها احدى نكاته، حتى باغته صوت صاحب المطعم حانقاً:

ـگاعد هنا محمد؟! عايف الشغل وگاعد هنا؟! طيح الله حظك..

ارتبك محمد، وأكثر ما أقلقه أن تكون شتيمة مدير  المطعم وصلت لأذنيْ حبيبته.

ومن دون أن يودّعها، هرول نحو الصالة الرئيسية، ليستعيد ثقة المدير بعملهِ. فوراً بادر إلى رفع الصحون والأقداح الفارغة، لكنه لم ينتبه أنه بالغ في تكديس الأقداح الزجاجية في الصينية التي مستْ كتف إحدى النساء من الوفد، فحاول تدارك الأمر سريعاً، لكن حركةً خاطئة بلحظة خاطفة تسببت في تعثّر المرأة ووقوع الصينية، مع ضجة وصوت تهشم بهتَ له جميع من في الصالة.

كان محمد فاغراً فاه، ينظر لعيني المرأة الخجلتين بفزع، وللحظة لم يعرف ماذا يفعل. لحظة بدت له طويلة وقاتمة، قبل أن يتحرك عدد من الحاضرين لمساعدة المرأة التي تلونت ملابسها وخصلات من شعرها ببقايا العصير والأطعمة.

ـأنت عار على مطعم أطلس يا محمد، هذا المطعم العريق! خزّيتنا..

علقت كلمات مدير المطعم في رأس محمد كما لو كانت منبهاً صباحياً.

 قرب مجسّم بارتفاع متر للشاعر السياب في وضع جلوس بإحدى جوانب المطعم، جلس محمد يفكر ما إذا كان عليه أن يغادر أو لا. أخبره زميل له أن عليه أن يبقى فأمامهم وجبة العشاء ولديهم عمل كثير في خدمة الوفد، ثم أضاف مبتسماً: “المدير يحبك بس هو معذور يصيح عليك”.

استعان بمجسّم السياب وهو ينهض عائداً إلى الصالة. في طريقهِ صادفها خارجة من الحمام وقد بدت خصلات شعرها ملتصقة بفوضوية. لم يستطع منع عينيه من النظر إليها، للحظة واحدة  قفز الى عينيه وجهها الخجِل الغارق في الإحراج عندما انهارت الصينية من يده دفعة واحدة، لكن عجباً فاجأه أن عينيها كانتا تنظران إليه بإمعان وكأنهما تتحدثان، وقد بدتا جذلتين وطيبتين، فيما أسفرت شفتاها عن ابتسامة مرحة ذات مغزىً.

كوب قهوة وحبتان إضافيتان من البقلاوة في صحن الحلويات، وقد حرص على رش حفنة وافية من الفستق الحلبي فوقهما، كانت تلك طريقته في قول “عذراً”  للمرأة. حمل الصحن إلى طاولتها بخفة، ضاحكاً لفكرة مستهترة مرقت بذهنه كالسهم، وهي إنه سيوقعُ هذا الصحن أيضاً، قال لنفسه إنه لو حدث هذا فعلاً فسوف يخرج فوراً من المطعم ولن يعود اليه مجدداً لأنه سيبدو كابتن أخرق.

تشبثت أصابعه بصحن الحلويات أكثر، وهو يقترب من المرأة التي قطعت على الفور حديثها مع الرجل الجالس إلى جانبها، وراحت تراقب محمد وهو يقترب بخطىً بطيئة بعض الشيء. اهتزت القهوة على وقع خطواته، وانسكب شيء منها في الصحن، ارتبك محمد قليلاً، لا يمكن تقديم القهوة هكذا، فكر للحظة .. للحظتين .. لثلاث، كان فمُ المرأة مفتوحاً قليلاً، وهي تشاهده متسمراً، ثم بحذر يُخرجُ من جيبه منديلاً، ويشرع بتجفيف الصحن من قطرات القهوة المندلقة، فيما أخذت الصينية ترتجف مع حركة يدهِ. تنفس برضىً وهو يبتسمُ متجهاً صوب طاولة المرأة، وبرفق وضع الكوب بيدٍ صعب عليه منعها من الإرتجاف، حتى إن الكوب قبل أن يلامس سطح الطاولة بدا كأنه رقص ليدلق ما فيه عليها، فأخذت البقعةُ شكل غيمةٍ صغيرة، سرعان ما طمرتها كومة من المناديل بادرت المرأة إلى وضعها، وقد ارتسم على ملامحها تعبير بليد لا ينمُّ عن شيء.

ثمة انطباع مرير لمحه على وجه صاحب المطعم الذي شاهد كل شيء. للحظات قليلة تبادل معه النظرات ومع المرأة قبل أن ينسحب محمد إلى الحمام. هناك نزع قميصه ناصع البياض بهدوء، طواه عدة طيّات ووضعه في كيس أسود، ثم ارتدى فانيلا رمادية بنصف كُم. رغب أن يكون لا مرئياً وهو يسير باتجاهِ الباب. خُيّل إليه أو تمنى أن أحدهم يناديه من داخل المطعم. لم يُرد أن يتأكد. تنفّس بنهم هواء ايلول الرطب. وسار بخطىً ثقيلة مُجرّحة. لم يرد على سؤال أمهِ المندهش: ها يمّه! شو اليوم من وقت؟ لمح كفيها المتضررين، لكنه لم يجرؤ على الكلام.

كاد ينجح بتناسي أحداث اليوم، فلقد دأب على تعليم نفسه بعض الحيل النفسية التي تساعد على النسيان، منها التذكير بأشياء بعيدة يحبّها، أومشاهدة فيلم أكشن جديد، وآخرها النوم، لكن حضور رفيقه غير المتوقع آخر المساء أيقظ ما تناساه، فهو سيحمل أخبار المطعم إليه بتفاصيلها، لكن صديقه كان متعَباً ومستعجلاً، لذا اكتفى بتسليمهِ ظرفاً مغلقاً ثقيلاً وودّعه بعناقٍ سريع.

كانت أمّه منكبةً على ترتيب شرشف الأريكة في صالة الجلوس، لكنه أدرك مشفِقاً أنها تكتمُ قلقاً وتساؤلاتٍ جمة.

أغلق الباب بإحكام وكأنه خشي تطاير حروف الرسالة. وراحت عيناه تتابعان الكلمات واحدةً إثر أخرى:

عزيزي محمد... خسارة أنك غادرت المطعم، كان وجودك محبباً لنا كثيراً، أحبّ أن أخبرك أن تعثّري وسقوطي لم يكن بسببك أبداً، لقد التوى كاحلي فحسب، كما إن اندلاق القهوة كان شيئاً لايُذكر، وهو فأل حسن على أية حال. شكرا لصحن الحلويات عزيزي ... لقد أكلتُه بشهية. كنتُ مصممةً على توديعك لأننا سنسافر اليوم إلى بغداد لكنك غادرت بطريقةٍ غريبة.

لقد سمعتُ أن المدير وزّع المكافآت على رفاقك في المطعم، إنه شيء جميل حقاً، لا أظنه سيغفلك لمجرد سهوٍ بسيط. ربما سيكافأك غداً، ابتسم فقط. عرفتُ من صديقك أن جوّالك معطّل، لذا اضطررتُ إلى كتابة هذه الرسالة الورقية بدلا من الإتصال بك هاتفياً، ولكي لا تنسى هذا اليوم قررتُ أن أترك لك هاتفي النقال، بعد أن قمتُ بفرمتتهِ تماما، فهو الآن جديد، ولا تقلق إنه آخر ما نزل في السوق».

جفلَ لطرقات أمهِ المتتابعة على الباب، سارع إلى تجفيف عينيه الدامعتين قبل أن يفتح باب غرفته بأناة. كان أهدأ من ذي قبل، ولم يرغب بنسيان أيّ شيء.

عرض مقالات: