صحراءٌ ممتدة، وهيكل زقورة حمراءٍ بلا ظلٍ تستريحُ الشمس على قمتها. كانت قد وصلت سيارة نوع “كيا سفي” صالون بداخلها أسرة من أبٍ وأمٍ وابنتيهما. الطريق مقفرة وجافة، لكنَّها عند الزقورة تتحول إلى ممشى من طابوقٍ عتيقٍ يصلُ إلى سلالم الهيكل.
أمسكت الأم بيد ابنتها الصغرى. هيأتها يكتسيها الهدوء مع ابتسامة خفيفة تدلُّ على الهيبة والتسلط. ترتدي بنطالاً من القماش بلونٍ أسود، وقميصاً مسبَّع الفتحة مزركشاً بأزهارٍ ذات ألوانٍ ربيعيَّة. حركتها خفيفة وتبدو أصغر من زوجها البدين بكثير. بعد ابتعادهم عن السيارة ترجلت الابنة الكبرى ولحقت بهم راكضة. وقفت تراقبُ الهيكلَ الشامخ أمامها، سمعت نداءات والدتها بعدم الابتعاد. لم يكن هناك زائرون. الأب قلقٌ من تحركات الكبرى. حاول الاقتراب لإمساك يدها، إلا أنَّ أنفاسه تقطعت وأخذ يسعلُ متعرقاً، بينما زوجته التي بمؤخرة كبيرة قالت له إنَّ عليه ترك التدخين حتى لا تتعكر النزهات.
لمحَ الأبُ بعضَ السياح فارتخى قلقه وترك ابنته الكبرى تصلُ إلى سلالم المعبد بلا تحذيرات. استدارت الكبرى وكانت ببنطلون جينز مقطعٍ عند الركبة وأخذت تنظر بعينين متّسعتين يملأهما الشغف إلى والديها. عادت تكملُ الصعودَ بحماس. خفقانٌ خفيفٌ ينبعثُ من قلبِها، هناك رجفة رافقتها مع كل درجة تعتليها.
يدها اليمنى تلمست السور الحجري، كان جمع أحجاره عبثياً أكثر ممَّا يجبُ رغم ثبات هيكلها. ملمس الحجر بثَّ في عقلها الخمول. استمرت بالصعود وهي تركز أذنيها تترصد أحاديث مجهولة بدأت بالخفوت تدريجياً. صعود الدرجات بدا منهكاً وكأنَّها ترتقي جبلاً، لكنَّها ممتعة وأكثر سلاسة. سارعت بقدميها حيث منتصف السلم، استشعرت بنوعٍ من الجاذبيَّة نحو الأرض كأنَّ هناك شيئاً يشدها إلى الداخل، أثقل كاحليها.
عند المنتصف هناك باحتان خاويتان، نظرت البنت نحوهما بعناية، تضفي عليهما ظلالٌ دائريَّة فارغة على الجنبين، مسحت عينيها بهدوء، وأعادت النظر. كانت الظلال لا تزال تدور بسرعة. وسوادها أكثر عتمة. عادت وفركت عينيها محملقة بقوة أكبر، تحاول استيعاب “من يدور” ثم اسندت جسدها الى يمين السلم وتشبثت أكثر بحجره.
عاصفة ترابيَّة تأججت لثوانٍ معدوداتٍ وتلاشت. أغرق الغبار عينيها وتخلل ثيابها، دارت بجسدها للبحث عن والديها. لم تجد سوى ملامح خطى أختها الصغيرة. تأملتها من بعيدٍ أميرة خارجة من أحد عوالم “دزني” بفستانها البيج المذهب عند أطرافه وحذاء “ساندرلا”. يد أختها كانت متشبثة بالفراغ، حاولت التركيز. بحثت أنظارها عن أمّها وأبيها، لم تجد لهما ظهوراً واضحاً. استدارت ورجعت إلى مسارها. أنهت صعود السلم الأول وصولاً إلى القبة في وسط الزقورة. كان مفصل زقورة أور على مفترق اتجاهات ثلاثة، منها اختيار النزول. تسمرت قدماها لثوان.
عند حافة السلم الأيمن جلس رجل بحلة بيضاء. قال: اختاري بين أنْ تتبعيني أو تهبطي عبر هذا السلم. وأكد أنَّ عليها التعجل بالاختيار. ثم نظر إليها من أعلاها إلى أسفلها، وقال: توجهي نحو أسفل القبة، وانزلي.
رجالٌ بملابس سود، يتراكضون يميناً ويساراً، مدججين بالأسلحة، يصوبون ويلوحون ببنادقهم على عجلٍ نحو جميع الجهات، كمن يبحث عن ذبابة. إيقاعُ خطواتِهم يوحي وكأنهم في حلبة سباقٍ لمن يصطاد الذباب أولاً وكم أعداده.
أربكت المشاهد عينيها. ارتجف جسدها وتسارعت نبضات قلبها، سألت الرجل بصوتٍ مرتبكٍ: لم هم يتراكضون، ماذا يفعلون؟ لماذا كل هذه الأسلحة؟
استطلعَ الرجلُ وبابتسامة خاوية من المعنى أمرها أنْ تنظرَ نحو الأعلى.
بهدوءٍ حركت رأسها ونظرت. لم يكن هناك شيءٌ سوى أكوام الأتربة والحطام على قمة الزقورة، حدقت مستغربة، وهي تتساءل: ماذا حدث؟ ليس هناك من جديد، هل سبق وحدث شيء؟ بعدها التفتت إلى الرجل لكنَّها وجدت كومة من عظام.
صمتٌ ملأ الأجواء حولها. صوت الريح بدأ بالتلاشي. صخب الجنود تسرب، طالعت جسدها النحيف، كأنه كومة رمال، أشبه بامرأة ناجية من معركةٍ لم تخضها، إنما جسدها هو من اكتوى بها.
استشعرت أذناها صوتَ طرقٍ خفيفٍ. همسات صبي، عند زاوية من المعبد هناك حيث خيَّرها الرجلُ الأشيبُ بين الذهاب معه، أو النزول. أخذتها أقدامها، استدارت على مهلٍ توجهت إلى بقايا معبدٍ مهدمٍ. هيكله عتيق. سقفه مفتوحٌ نحو السماء وبداخله ممراتٌ ودرجاتٌ. التفتت باتجاه صوت طرق ولمحت صبياً كثيرَ الهمس. شواهد قبور. كتابات غير مفهومة، داخل المعبد رجلٌ يافعٌ بين قدميه أدواتُ بناء، يحملُ طابوقة واحدة يحاول حشرها بين الجدران، اكتست بشرته صبغة سمراء غامقة كما الصبي، يرتديان ثياباً غريبة بيضاءً اصفرَّت من كثر الأتربة. الحجر الأول أجاد تثبيته، أطلق ابتسامة بوجه رفيقه الصغير، الذي أسرع وناوله حجراً ثانياً. باشر بمحاولة تثبيتها. نظر الأصغر إليها. بدا شديدَ الحماسة، طلب أنْ تساعدهما إذا كانت راغبة، وأطلق كلماتٍ بدت غريبة المعنى: نحن نصنع، حاضراً، ماضياً، ومستقبلاً. شاركي لن تخسري شيئاً، ضعي حجراً، من الممكن أنْ تأتي مستقبلاً لتجدي ما صنعنا.
ارتسمت ابتسامة خفيفة. نجحا بتثبيت الحجر الثالث، ما إنْ استقرت بالثبات، حتى علا صوتُ ثلاثة ارتطامات، فقد تساقطت ثلاث حجرات من الجدار الأيمن. غلف الفزع عينيها. وأطلق الأصغر صرخة ضاحكة. وقال: ها نحن نبدأ من جديد. ردَّ رفيقه: وإنْ يكن ناولني الحجارة التالية.
بفضولٍ واستغرابٍ أغرقتهم بتساؤلاتٍ عدة وبصوتٍ مرتفعٍ على غير العادة تساءلت:
- كم يستغرق وقتُ عملكم.. متى تنتهون، لماذا يتساقط الحجر؟
- لا نعلم.
- هل تأكلون؟
- لا نتذكر
- متى تنامون؟
- بعد انتهاء ما بدأنا به.
ابتسم الاثنان وقالا لها: أكملي طريقك نحو القمة.
ضجيجٌ وأحاديث وضحكاتُ أطفالٍ تعلو من الأسفل. أكملت دوراتها، وبلغت القمة. قمة أور. لم تكن كما شهدتها عند أول درجات السلم. معبد شاهق ممتلئ بالحياة، الخضرة تكسو المكان. ومارة غرباء منهم يرتدون زياً موحداً، يدورون بتسامحٍ ودود. سارت معهم وكأنها ليست بينهم، جرجرتها أقدامها إلى أعلى نقطة، نظرت إلى أسفلها، مساكن وأبنية صغيرة بهيئة بسيطة، تتراكمُ متراصَّة، هناك عبقٌ خفيفٌ ونسماتٌ خلابة مريحة.
الشمس الجالسة على رأس المنارة لا تعطي شعوراً بحرارة الطقس، تبعث للعامَّة بنور معبدها، عند الركن. أحسَّت بشيء من التعب والدوار وهي تنظر من فوق. نفخة تراب، رمشت عيناها، ووجدت نفسها على بقعة مهدمة ترابيَّة على قمة أور، حدقت نحو الأسفل لم تكن هناك بيوتاتٌ صغيرة، ليس هناك سوى صحراءٍ قاحلةٍ شاسعة.
رجالٌ بثيابٍ سود، آخرون بثياب مرقطة، مدججون بالأسلحة، يدورون ويبحثون بتسابقٍ، ويُسقطون المارة أرضاً من الأعلى، يطيحون ببعضهم البعض. كان جلوسها وسطهم مرعباً. حاولت الإفلات والهرب من بينهم. ركضت نحو المعبد حيث يتواجد الرجلان. لم تجدهما، لم تعثر سوى على شواهد قبور، وجهاتٌ تعسَّر عليها قراءتها أو المرور بها. بدأ محيط الأجواء يثقل الأذنَ، كأنها بداخل فقاعة كبيرة. مدَّت يدها بحذرٍ وجربت إعادة إحدى الأحجار الساقطة. كان حجمها صغيراً لكنَّها شديدة الثقل. حاولت رفعها بعزم. أصرَّت على رفعها. أطلقت تنهداتٍ مكتومة. الحجارة التي تتسع لحجم يدها، يكاد وزنها يكون أضعاف حجمها. استجمعت قواها وحاولت حشرها في الجدار كما كانا يفعلان. ثبتت الحجارة. وعادت لتثبيت الثانية، ثم الثالثة.. حتى وصلت إلى الحجارة الرابعة وثبتتها. فسقطت فوقها أربعة أحجار.. ضحكت ونفضت ركام الأتربة عن ثيابها وعادت لتثبت الحجارة الأولى من جديد.