ما معنايَ وما معنى الكتابة عن مجرَّةٍ إبداعيةٍ تنامُ عند تخومها النجوم؛
كلما هممتُ بالكتابة عنهُ، أجد نفسي وملكتي الأدبية لم تنضج بعد حتى تتجرَّأ وتدوِّن سطوراً تشاطرُ قامتهُ السردية التي شبَّتْ على وجع حقيقي وموهبة استثنائية، واستلهمتْ من طين الهور وقصبه ومشاحيفه أعذب الحكايات وأكثرها أسىً ودهشةً وسحراً.
أتُرى سأتوقَّف الآن وأؤجل الكتابة؛ فثمة هاجس يتملكني ويصيح بداخلي أين أنتَ من منزلة هذا الطائر الجنوبي المجبول بقار التعب والصبر والصمت. حسناً ها أنا أزيح المخاوف عن نفسي وعن جنوني وعبثي وأكتب عنهُ؛ ولكن أية كتابة تنتظرونها مني؛ دعوني أرتشف كأساً ثقيلةً من النبيذ لكي أستمر؛ امهلوني لحظات ليس إلاَّ؛ نخبكم ونخب كل قصة كتبها فهد الأسدي بمداد دمعه وجراحاته ونزفه الذي لم يهادن حتى الرمق من حياته. كانت هناك في كربلاء مكتبة خاصة للشيوعيين؛ منها يشتري أصحابي جريدة “طريق الشعب” ومنها أيضا يقتنون أحدث الكتب التي تحمل في أنفاسها رائحة المتعبين والكادحين؛ كنتُ حينها في الرابع زراعي من عام ١٩٧٦ حين أخذ بيدي صديقي حميد الزيدي لتلك المكتبة الواقعة قرب ساحة ((البلوش))؛ لفتَ نظري على ناصيتها التي توضع عليها عادةً الصحف والكتب الصادرة حديثاً غلافَ كتابٍ أنيق طغى عليه اللون الأبيض وقد احتلَّ وجهٌ واجمٌ جزأه الأسفل، أما العلوي فهناك سٍحابتان بلون أزرق كئيب كان فوقها العنوان بالخط الديواني (طيور السماء)؛ هتفَ حميد ..
إنها مجموعة جديدة لفهد الأسدي، انتشلها بلهفةٍ وانشغل بقراءة الفهرست، كان سعرها على ما أذكر ثلاثة أرباع الدينار وربما نصف هذا المبلغ؛ الذي أذكره أنَّ صاحبي طلب ما في جيبي من نقود لكي يتسنى مع يمتلك منها لشراء الكتاب؛ لكني لن أنسى أبدا أنَّ ما كان في جيبي هو مئة وعشرين فلساً؛ وضعتها في يده وسرعان ما صارت (طيور السماء) بحوزتنا.
في القسم الداخلي وجدتُ صعوبة بقراءة قصص المجموعة؛ فلقد تعودَّتُ حينها على قصص المنفلوطي الرومانسية التي كنت أسرح معها في الخيال الفتي الغض المراهق؛ وحليب مراهقتي يغلي في دمي. لم تدخل رأسي قصص الأسدي؛ فليس هنالك شاردة واحدة للجنس فيها؛ بيد أني بعد شهور طالعتُ المجموعة من جديد، فاندلقَ نورٌ أخَّاذٌ في وجداني ومسارب جنوني كأنَّهُ حزمة ضوء من مشكاة تتسرَّب إلى معتقل؛ وغمرتني متعة تشبه لذّة مطالعتي كتاب زنوج وبدو وفلاحون لغالب هلسا، كان إصدارهما متقارب جدا على ما أتذكر؛ لكنَّ (طيور السماء) حلَّقتْ بروحي إلى أصقاع نائية وخاصة المرأة ((عزيزة))؛ أما قصة ثقب السرطان فقد رسَّخَتْ في ذاكرتي ذلك التحدي الذي مازال يصاحبني حتى الآن؛ وهي قصة عن أسراب نملٍ يخرج من ثقب أرضية غرفة بطل القصة الذي لم يأبه له بادئ الأمر؛ ليضطر أخيراً على ختم ذلك الثقب بالطين لكنَّ أسراب النمل تخترقه وتغزو حجرته وما عاد بوسعه إيقاف زحفها؛ أية نبوءة بعيدة يمتلكها فهد الأسدي؛ وفي قصة أخرى قرأت عن شجرة عملاقة في قرية لم تعجب مسؤول القرية فقرر ذبحها من الوريد؛ لكن الشجرة يخضرُّ بها الغصن بعد مرور السنوات لتنمو من جديد؛ ربما يظنُّ البعض أني أضع كتاب (طيور السماء) أمامي الآن عندما أكتب؛ فأقول أمتلكُ ذاكرةً من الصعب أنْ تُبلى وكل مرجعية أستند عليها الآن هي ذاكرتي هنا في أستراليا. مضت السنوات تعدو مثل فرس جموح، وذات يوم كنت بزيارة لأختي في بغداد الجديدة حيث شقتها في شارع السوق؛ لأجد مكتبة صغيرة لدى زوجها أنيس الأسدي؛ مجلدات الجواهري وعشرة أيام هزَّتْ العالم وكيف تتعلم الإنكليزية بخمسة أيام؛ يا إلهي هذا كتاب (طيور السماء)؛ التقطته بسرعة وحين فتحت الصفحة الأولى من المجموعة وجدت هذا الإهداء: إلى أخي أنيس الأسدي مع التقدير مع إمضاء يشبه الشراع أو الكوخ؛ سألت أختي بفضول كيف جاء لكم هذا الكتاب؟ أجابت ببرود أنه كتاب((لحماي))؛ اقشعرَّ جلدي وتعرَّقتْ جبهتي؛ دنوت منها غير مصدق حين سألتها: هل تعنين أنَّ أنيس .. وقبل أن أكمل أجابت: كأنك لا تعلم أن أنيس شقيق فهد، احتضنتها وجسدي يرتعش؛ بل نزَّتْ دمعة إثر دمعة من عينيَّ وأختي منذهلة؛ صرخت بها أريد أن أراه الآن فارتبكت المسكينة، حتى حانت فرصة لقائه في منزلهم؛ استرعى انتباهي ضحكته الطليقة برغم الظروف العصيبة التي كانت تحيط به؛ كان طالباً يدرس الحقوق في كلية مسائية ومعلماً للغة العربية في واحدة من مدارس الابتدائية عند الصباح؛ وافترقنا أخذتني الحرب وأخذته المحاماة؛ لكني كنت أحرص في كل إجازة من الجبهة على زيارته للبيت؛ أذكر ذات مرة زرته في محل تجاري يبيع الأدوات المنزلية وقد أنيطت لفهد مهمة إدارته بشكل مؤقت؛ كان المتجر لقريب له سافر للترفيه عن نفسه إلى الخارج وصادف حينها الواحد والثلاثين من آذار؛ كنت أجلس معهُ منتظراً انتهاء ساعة إغلاق المحل؛ وإذا برجل بدشداشة بيضاء كالحة يدخل علينا ويخبره عن وصول البضاعة؛ كان أبو ليث في حينها غير مقتنع بمنصبه الذي فرض عليه من قريبه عنوةً؛ هكذا أحسست حين سأله أية بضاعة؟ فتلى الرجل عليه قوائم بعشرات التلفزيونات والثلاجات والمبردات والغسالات وغيرها من أمور منزلية؛ ابتسم فهد وتساءل متهكماً: هذه كلها لي؟ ثم استدرك قائلاً: والله لو كانت هذه البضاعة لي لأقمت احتفالاً مهيباً هذا اليوم. هنا وصلتني شفرته؛ إذْ كان يقصد ميلاد الحزب الشيوعي. فتح القاصة وأعطى الرجل أجره وابتسم قائلاً: نحن مثل الجمال نحمل الذهب على أكتافنا ونأكل العاقول. في تلك الليلة سهرتُ معه في حانة غرناطة التي تقع على أحد أركان شارع “أبو نؤاس” لنجد هناك الشاعر رشدي العامل والناقد فاضل ثامر وتوفيق الخياط ويوسف الحيدري وياسين النصير وحسين الحسيني ووجوه أخرى لا أعرفها كانت تشتعل بالألق؛ بعد ساعة تجرأت لأستل قصائدي من جيبي وأضعها بيد فهد؛ سرعان ما تركها بيد رشدي العامل الذي استغرق بقراءتها بأناة، كنت أجلس لجواره، قرأ الأولى وقلبي يرتعش ودخل بسطور الثانية وجسدي يرتعد عندما بدأ بقراءة الثالثة اضطربت معدتي؛ كان القلق قد نال مني؛ لأترك المائدة وأفرغ ما في أحشائي بعيداً عنهم، حين أقفلت راجعاً استقبلتني ابتسامة فهد وهو يعيد قصائدي إلى يدي، أجلس واستمع ماذا يقول أبو علي عن قصائدك، وبنيرة صوت كأنها همسة ملاك قال العامل: انتظر منك قصائد أكثر نضجاً. بالطبع حزنت، بل حزنت بشدة، تركت المائدة محتجا كطفل عائداً إلى الجبهة. وتراكضت السنوات؛ تراكضت كثيرا حتى غدوت من رواد نادي الاتحاد الدائمين بينما فهد يأتي مصادفة أو أذهب إلى بيته لأجيء به حتى يدفع حسابي بل أزيد عليها بعض الدنانير لطعام العشاء؛ كثيرا ما انتشلني من تشردي و كم كان كريماً سخيَّاً عندما يعين الآخرين؛ كنت أزور مكتبه برفقة كزار حنتوش حتى يمدنا بما نحتاج إليه في مساء السهر؛ ذات يوم طلبت منه لقاءً إلى جريدة الجمهورية، تركتُ الأسئلة معه لكي أعود بعد أسبوع؛ وقد أكمل الجواب عنها؛ لكني وجدت صعوبة قصوى بكتابة مقدمة عنه؛ أنا الذي ينجز أي تحقيق صحفي بغضون ساعة؛ ثلاثة أيام أحاول كتابة مقدمة للقاء وأفشل؛ حتى كتبته أخيرا لأودعه لدى السيدة ابتسام عبدالله؛ بعد يومين خطفتُ عليها بصحبة جان دمو؛ قالت تعال أنظر لموضوعك سينشر غدا؛ كان المانشيت أنا كاتب واقعي بصراحة ولا أخشى أحداً؛ صعق جان من جرأة تصريح فهد؛ حين هبطنا السلَـم قال هامساً: سيذهب فهد إلى التهلكة بهذا العنوان الصارخ؛ حلَّ الصباح لكنَّ اللقاء لم يُنشر؛ بعد أيام ذهبت لأم خالد مستعلماً عن الموضوع فأخبرتني لقد ارتأى سعد البزاز تأجيله حفاظاً على حياة فهد. بعد مرور شهر تقريبا نشر اللقاء وكان المانشيت أنا كاتب واقعي بصراحة. فيما حذفت باقي الكلمات من العنوان ومن الحوار أيضا.
ولا أنسى موقفه النبيل حين كتب رسالة إلى العقيد الركن عبد الغني عجيل الأسدي حين كان أمر لوائي الرابع والثلاثين صقر قريش، وطلب في سطورها مساعدتي لغيابي لأكثر من أسبوعين ودخولي جريمة الهروب؛ استقبلني آمر اللواء بحفاوة إكراماً لرسالة فهد الأسدي؛ وبدلاً من إيداعي السجن منحني إجازة لمدة أسبوع وقد حمَّلني تحياته الدافئة إلى أستاذه في الابتدائية فهد. قبل مغادرتي البلاد؛ حمَّلني قصة بعنوان الراضوع إلى جواد الحطاب يوم كان مشرفاً على الصفحة الثقافية لجريدة الثورة أحدثت بلبلة مخيفة في الوسط الثقافي. وركضت الأوجاع بنا؛ ركضت حدَّ النخاع، وبينما كنتُ في الأردن أذرع الشوارع مترقبا قدوم عائلتي كالمعتوه صادفت أم ليث زوجة فهد الأسدي مع ابنتها هنادي التي كانت تنتظر سفرها لأمريكا للاقتران بأبن خالها هناك؛ شهقت المرأة الطيبة حين رأتني؛ ياما أطعمتني وياما غطت بعطفها وحنانها جسدي المثخن بكدمات الشوارع والأرصفة؛ كانت شاحبة وقد نال منها مرض السرطان وكنت مكتئبا بشدة؛ سألتني كيف حال الوالدة فأجبتها بصوت منكسر لقد رحلت؛ انهمر الدمع سخيناً من عينيها أمام المارة؛ ظلت تبكي بحرقة وهنادي تحاول أنْ تطيِّب من خاطرها؛ لم تصدق أنَّ والدتي التي تركتها قبل أسابيع قد باغتها الموت هناك، بينما هي جاءت للعلاج هنا في الأردن؛ شعرت أن دمعها سيستمر لو مكثت معها فقررت الانصهار عن مرأى عينيها؛ لأحمل أسايَ إلى أستراليا. بعد مضي شهر وصلني نبأ وفاة زوجة فهد الأسدي؛ وبعدها بشهرين وصلني نبأ وفاة أختي زوجة شقيق فهد الأسدي؛ وبعدها بشهر وصلني نبأ الجلطة الدماغية التي تعرّض لها فهد الأسدي؛ ثم رحيله الذي أبكى حديقة نادي الأدباء وحروف الأبجدية عليه؛ وها أنا أختم هذه المناجاة والمرثية لأكتب أخيراً:عند بزوغ الشمس شاهد الزائرون الذين عادوا من زيارة مرقد الإمام علي ع، هبوط طيور من السماء على قبر ندي في وادي الغري ، حتى تحول القبر الى مثابة بيضاء، كأنه صرح شيّد من ريش الحمام، وثمة دعاء خاشع ترتلَّهُ “عزيزة “؛ قبرٌ يشعُّ بدمع الكادحين، وطيور تصفق بأجنحتها وتطلق صيحات جريحة كأنها لأم ثكلت بولدها، فجأة انفتح القبر وتدفقت من جوفه نافورة حروف نحو السماء، راحت تتشكل في الفضاء مع بعضها وبدأ الناس يقرؤون أسماء قصص وروايات؛ العيون المطفأة، جسد يمتطي صهوة الريح، الكارخ، الشبيه، قيامة الرجل الذي مات في ثلاجة، صلوات الانتظار، عدن مضاع، معمرة علي، الصليب، حلب بن غريبة، الزفة، الراضوع، الشبيه ثقب السرطان، شجرة وغموض، ثورة الطين..
مع غروب الشمس وحلول الظلام، اندمجت الأسماء مع بعضها حتى أصبحت نجمة تتلألأ في سماوات البلاد؛ نجمة مضيئة بعرق الكادحين وهتافات المناضلين؛ نجمةٌ مذهلةٌ اسمها فهد الأسدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الشهادة كتبتها بناءً على طلب من امانة الشؤون الثقافية في اتحاد الأدباء للاشتراك في أمسية أقيمت للراحل الكبير فهد الأسدي؛ لكن تعذر تقديمها لأسباب فنية كما أُخبرت؛ ولذا حرصتُ على نشرها في جريدة “طريق الشعب”؛ الجريدة التي تحتضن الإبداع والحقيقة كما عودتنا على ذلك منذ بزوغها بين أكفّ الكادحين.