حكاية الحالمَين التي استمد كتاب سعيد الغانمي (الكنز والتأويل) عنوانه منها، وجرى التعرض لروايتها في أكثر من مرجع، لا تنطوي على تعقيدات كثيرة تزيد على ما يحتاجه الحلم من تعبير يستدل به الحالم على معنى حلمه أو رؤياه، ويتبين ما خفي عليه منه أو منها. غير أن الكاتب الذي يعتمد الحكاية بنسختيها الموجودتين في (حدائق الأزاهر) لابن عاصم الأندلسي، و(ألف ليلة وليلة)، ويسقط رواية بورخس المعتمدة هي الأخرى على ألف ليلة وليلة، لا يكتفي بتعبير الحلم أو تأويله بالطريقة المباشرة التي تبين فيها الحالم البغدادي بمساعدة الحالم المصري الحاجة إلى الرجوع إلى الوطن والخلاص من الغربة، والبحث عن الكنز المدفون تحت شجرة السدر الموجودة في بيته. نعم، هو لا يكتفي بهذه الدلالة الرمزية البسيطة ولا يشير إليها. الدلالة التي تريد الحكاية أن تقول لنا فيها إن النتيجة المترتبة على مفارقة الوطن والغربة عنه لن تكون غير الشعور بالمذلة والمسكنة والضرب بالمقارع، وأن الكنز الحقيقي سيكتشف بمجرد العودة إلى الوطن والمنزل الأول نفسه.
وتجربة ذلك المواطن البغدادي الذي جعل من الحلم الذي يدعوه إلى أن يبحث عن رزقه وحظه في مصر، ثم يعود الى الوطن بعد كل ما لقيه في مصر من عنت وشدّة بمساعدة حلم آخر يصدق مع كذبه، دليل قديم على خيبة المسعى الخاص بالحصول على هذا الرزق والأمان خارج الوطن. وهو ما يشير إلى أن الحالم المصري كان صادقا وحكيما مع اضطراره لتكذيب حلمه وتسخيف الاعتقاد بالأحلام جميعها. وكأنه قد استعمل الحلم تعلةً ووسيلة خادعة لإقناع الحالم البغدادي بالعودة إلى وطنه وبيته بحجة وجود الكنز الذي حلم هو الآخر بوجوده في بلد وعنوان آخر غير مصر التي جاء البغدادي للبحث عنه فيها. وواحد من أدلتنا أن حلمه بوجود كنز ينتظره في بغداد لم يغره بمفارقة وطنه والذهاب إلى هناك، كما فعل الحالم البغدادي مع حلمه.
أليس هذا هو القصد الواضح الذي يختفي وراء الحكاية رغم غلالة التمويه الرقيقة التي يضعها مؤلفها المجهول بينه وبين القارئ؟
وأنا ما زلت أتذكر ما ورد في قصيدة الشاعر عبد الوهاب البياتي التي كتبها إلى (قمره الحزين)، ولده علي، وهو في الغربة عام 1955 من إشارة لها صلة بهذه الحكاية، وإلى الكنز الذي ينصح البياتي ولده في الغربة بالبحث عنه تحت شجيرة الليمون بعد أن خبأه السندباد في بيته تحتها.
“غرقت جزيرتنا وما عاد الغناء
إلا بكاءْ
والقُبَّرَاتْ
طارت، فيا قمري الحزين
الكنز في المجرى دفين
في آخر البستان، تحت شجيرة الليمون، خبأهُ هناك السندبادْ..”
ونتذكر، كذلك، الكيفية التي جعل فيها الكاتب البرازيلي باولو كويليو من هذه الحكاية أساسًا بنى عليه روايته الشهيرة الخيميائي (Alchemist The)، مضيفا إليها وموسعا لها على نحو يكون فيه هذا الحلم مشروع حياة، وأملًا مفتوحًا لكثير من الأجيال اليائسة في هذا العصر من أجل التمسك بالحلم وتحقيق الهدف الشخصي، مهما كانت صعوبته داخل الوطن وليس في مكان آخر سواه. وهو أمر أشار إليه الغانمي في دراسته المقارنة بين الحكاية ورواية الكاتب البرازيلي الشهيرة.
وما ورد في مقدمة الطبعة الأولى من كتاب الغانمي المشار إليه
(ظهرت طبعة الكتاب الأولى في بيروت عن المركز الثقافي العربي عام 1994، والثانية عام 2014 في دار الشؤون الثقافية ببغداد).
عن حكاية الأرض التي تتحول بذاتها إلى كنز، يلخص هذا المعنى، أو ما هو قريب منه دون حاجة إلى ذكر لهذه الحكاية:
“خلف رجل لأولاده أرضا، وأخبرهم أن في الأرض كنزًا، ووجدوا أن الكنز هو الأرض نفسها”!
ولكن المؤلف المفتون بالتأويل والمترجم لأكثر من كتاب فيه، لا يكتفي بمثل هذا التفسير البسيط لهذه الحكاية، ولا بدّ من تشغيل مفاهيم عدته المنهجية والثقافية الضخمة عند قراءتها، على عادته المتبعة في هذا الكتاب.
وهو يقول بعد إيراده تلخيصًا للحكاية “إن الاكتفاء بتحليل النص على هذا النحو يعني الطيران بجناح واحد”. (ص ٩٦) ولا بد له، كما يقول من طرح سؤالين:
- كيف يدلُّ النص؟
- وما الذي يدل عليه النص؟
وهما، كما يشير المؤلف إلى ذلك، سؤالان يطرحهما تودروف في كتابه مدخل إلى الشعرية، وليس سعيد الغانمي نفسه.
والجواب على السؤال الأول منهما، كما يضيف المؤلف، وصفي، أفقي، تتابعي.
وجواب السؤال الثاني تأويلي، عمودي، تبادلي.
يدرس الأول علاقات الحضور ويدرس الثاني علاقات الغياب، ليس في هذا النص وحسب، بل في أخلاق النوع الأدبي كله، وما تسمح به أعراف الخطاب. ص ٩٦
وبين ما تسمح أو لا تسمح به (أخلاق) الخطاب و(أعرافه) تقع حكاية الحالمَين التي نتحدث عنها هنا بين فكي ماكينة التأويل التي تقوم بهرس كلماتها وشخوصها ورواتها ودلالاتها دون رحمة من أجل إفراغها في قالب جديد قد لا يمت في صورته النهائية بصلة إلى قصد المؤلف، وعقلانية التأويل. وذلك لا يهمّ طبعا ما دام هذا التأويل مدرعًا بأسماء ومراجع نقدية لا يرقى الشك إلى شرعيتها الفكرية والنقدية، ولا يأتيها الباطل من بين أيديها ومن خلفها.
والغانمي يقول في مقدمته على ترجمة كتاب روبرت شولز (السيمياء والتأويل) إن التأويل الذي بدأ مع اللغة من الاهتمام بالمعنى القصدي الذي يخفيه المؤلف في مكان ما من نصه، قبل أن يحتضن “الاتجاهات الفلسفية والأدبية الذاتية، والشخصية والظاهراتية، التي تهتم بذوات المؤلفين في محاولة لترميم المعاني الكامنة ضمنا في نصوصهم..”، أقول إن الغانمي الذي يعرف، هكذا، تاريخَ التأويل واتجاهاته بكل تعقيدها وغناها لا يستطيع التخلي ببساطة عن كل هذا الإرث، وهو يواجه هذه الحكاية أو غيرها من الحكايات المدروسة في هذا الكتاب. وهو لا يلقي بالا لتحذير شولز نفسه في مدخل كتابه من “الإغراءات” التي يخضع لها السيميائيون أكثر من سواهم، وما يتصل بذلك من استخدام الرموز والمخططات التوضيحية، وكيف أن الناقد بدخوله حقل القراءة سيقع تحت وطأة الممارسة التأويلية، أو تحت سحر الاستجابة الشخصية إلى درجة تضيع معها المنهجية السيميائية المتماسكة في شراك التفسير القديم.
مع أن ما نواجهه في هذه القراءة هو بالضبط جهود التأويل الزائدة هذه، أو المبالغ فيها. وهي جهود رأينا هنا أن توظيفها لتأويل نص الحكاية وحل شفراتها وعُقَدِها قد تأتي بنتائج عكسية من شأنها أن تشوش على فهمنا لبعض جوانب نصوص الحكايات التي تنتظمها.
والمخطط (التوضيحي) الذي صنعه المؤلف لوضع القارئ أمام صورة ملخصة لجهوده في تأويل الحكاية لا يلبي بتقابلات كلماته وأرقامه وأسهمه ومربعاته رغبة القارئ في تحقيق فهم أكبر لهذه الحكاية – اللغز. وهو يبدو نوعًا من التقليد الذي درجت عليه بعض الدراسات الحديثة، ولاسيما البنيوية والتأويلية منها لاكتساب درجة من الضبط المستمد من العلوم الصرفة. كاذب وصادق منهما.
وعودة المؤلف بعد فراغه من كل هذا إلى استخدام كلمة (الحلم) والحالمين لأغراض الدراسة، وتثبيتها كما وجدت في عنوان الحكاية الأصلية ونصها بدلًا من (الرؤيا)، دليل على أن هذه الشروح تمثل في بعض أجزائها حشوًا يعيق مجرى قراءة تحليل الحكاية، ويطيل
مدة وصول القارئ إلى فهم قريب ومقنع لدلالتها.
وفي تأويل الحكاية هناك عودة متكررة لتوضيح توجهات ضمائر الخطاب، وطريقة استخدامها، ودلالة هذا الاستخدام من قبل رواة الحكاية وشخصياتها التي يصبح (الكنز) نفسه واحدًا منها. وثمة شرح لمعنى بعض الكلمات والمصطلحات في المعجم، وتوضيحات قد لا تكون هناك ضرورة ملزمة لها دائما من أجل بيان الفروق بين الحلم والرؤيا، وما هو صادق وكاذب منهما.
وسواء كان الأمر متعلقا بحلم أو برؤيا فليس هناك كبير فرق في تقدم السرد نحو الهدف الذي يستخدم فيه الحلم بمعناه المتخيل والمحفّز أداة للوصول إلى أهداف واقعية عملية يتحقق فيها الغرض من وجوده.
والطريقة الوحيدة التي يستطيع القارئ فيها تبيُّن ما نقول هنا هي العودة إلى نص الحكاية ورؤية التحليل المرافق لها في كتاب المؤلف الذي استمد عنوانه منها.
وسنكتفي هنا بإيراد هذا النص من نصوص تأويل الغانمي لهذه الحكاية لإعطاء فكرة عما نقوله بخصوص المبالغة في بعض هذه التحليلات، وقلة جدواها في تحقيق الهدف، وهو توفير فهم أفضل للمعاني الكامنة في قلب الحكاية والكنز المطمور بين كلماتها:
“تجعل رواية ألف ليلة وليلة الحالم البغدادي يرى مالا كثيرا، وتجعله رواية الأزاهر يجد قمقما فيه ثلاثون ألف دينار. ولكن هل يوجد المال المدفون تحت الأرض بغير ما يحفظه؟ من المؤكد أن المال لم يأتِ وحده إلى هذا المكان. فقد وضعه شخص ما هنا. ولا بدّ من حفظه، وضعه في إناء ودفنه. وكلتا العمليتين في حفظ المال في وعاء ودفنه تحت الأرض تسمى بالاكتناز. الكنز، كما يقول صاحب اللسان، اسم للمال إذا أحرز في وعاء، ولما يحرز فيه، وقيل الكنز: المال المدفون. إذاً فقد عثر الحالم البغدادي على كنز، ولكن كلتا الروايتين تريد أن تموه على هذا الكنز، فتجعله رواية ألف ليلة وليلة مالا كثيرا، وتجعله رواية (الحدائق) قمقما فيه مال. كلتا الروايتين لا تسمي الكنز، بل تهرب من تسميته. فلماذا؟ لأن الكنز مكنوز، ليس ماديًا تحت الشجرة وحسب، بل سرديا أيضًا تريد كلتا الروايتين أن تبالغ في إخفائه والتمويه عليه. ولا يموه الكنز رسالته وحسب، بل هو يموه على نفسه أيضًا. يروي الطبري في نفسير آية “وأمًا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما” أن أهل التأويل اختلفوا في ذلك الكنز فقال بعضهم كان صحفا فيها علم مدفونة.
هكذا يعيدنا الكنز إلى العلم والصحف أيّ المكتوب ليس عودة مباشرة صريحة، بل هي عودة عبر ما لا يقوله النص، أي عبر ما يسكت عنه ويكبته. بين المكتوب والمكبوت، إذاً، حوار متواصل يحيلنا المكتوب إلى المكبوت، ويحيلنا المكبوت إلى المكتوب..” إلخ.. إلخ (ص 103)