من بين فعاليات خيمة "طريق الشعب" في مهرجان "اللومانتيه" بباريس (13-15 أيلول 2024) كانت فعالية (مقاربة في الثقافة والإعلام) التي قدمها الكاتبان رضا الظاهر وعبد المنعم الأعسم في اليوم الأول للمهرجان.
هنا مقتطفات من أبرز موضوعات المداخلة التي قدمها رضا الظاهر والموسومة (الثقافة الجمالية والحزب الشيوعي العراقي):
الثقافة بمفهومها الذي يعنينا هنا هي الثقافة الجمالية، أي، بإيجاز، هي ثقافة الابداع الأدبي والفني.
تأسس علم الجمال، كما هو معروف، باعتباره جناحا من معمار الفلسفة على يد العبقرية الاغريقية أرسطو، وإليه يعود الفضل في صياغة أبرز وأهم المفاهيم الجمالية في الأدب والفن. وكان على تاريخ علم الجمال أن ينتظر بروز العقول الألمانية الموسوعية: كانت، فيخته، شلنغ، ليوسع عمارته الفكرية، ولربما كان هؤلاء العمالقة بمثابة حلقة وسيطة، تمهيدية، للصياغة الشمولية التي وضعها هيغل في سفره الكبير (محاضرات في علم الجمال).
واستنادا إلى هذا الإرث، المتمثَّل نقديا، سعى ماركس (وإنجلز بالطبع) إلى تكريس جانب من نشاطاته لقضايا الأدب والفن. ويذكر قراؤه الجادون ملاحظاته العميقة عن الأدب الإغريقي في المقدمة العامة لـ (الغروندريسه)، فضلا عن مراسلاته العديدة حول هذا القضايا، اضافة إلى رغبته في كتابة بحث خاص عن بلزاك ما أن يكتمل (رأس المال). ومعلوم أن هناك الكثير من الأبحاث والكتب حول جماليات ماركس، وبينها ما يبحث في (رأس المال) كعمل ابداعي كلاسيكي، وكذلك في (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت)، العمل الأصغر ولكن الكبير الأهمية. ولعلنا نذكر، في هذا السياق، المقال الذي كتبه الباحث الماركسي البريطاني فرانسيس وين، وهو أحد أبرز مؤلفي سيرة ماركس، الموسوم (شاعر الديالكتيك) – (الغارديان – 2006).
ويصعب عدم ذكر لينين في هذا الباب رغم انشغالاته النظرية والعملية التي لم تتح له تقديم مساهمات بالحجم الذي قدمه بليخانوف. ومع ذلك فان مقالاته عن تولستوي، وملاحظاته عن الأدب والفن، تنطوي، رغم تقادمها وضرورة إعادة النظر فيها، على أهمية منهجية.
بالمقابل يلمع اسم بليخانوف كأول وأبرز ماركسي يمهد لبناء معمار فلسفي في علم الجمال وتطبيقاته. وحسبنا إحالة القاريء إلى المجلدين الأخيرين من مختاراته الفلسفية. وما من شك في أن لوكاتش هم المتمم الثري لجهود بليخانوف النظرية. ونذكر هنا بمبحثه الهام الموسوم (خصوصية العامل الجمالي)، وهو أحد القمم البارزة في النظرية الجمالية المصاغة في إطار الفرضيات الماركسية، وإن كان مسودة أولية في إطار عمل أكبر هو (أنطولوجيا الوجود الاجتماعي).
أما من جاءوا بعد ماركس فقدموا، ومازالوا يقدمون، الكثير المضيء في ميدان جماليات الأدب والفن.
هذه المقدمة الوجيزة ضرورية للانطلاق نحو موضوع (الثقافة الجمالية والحزب الشيوعي العراقي). ولمقاربة هذا الموضوع لابد من إضاءة محاور عديدة من بينها: تعريف المثقف (والمبدع الجمالي على وجه التحديد)، وعلاقة المثقف بالسلطة، وثقافة الاستبداد والتنوير، والآصرة بين الديمقراطية والثقافة، وقضايا الصراع بين "الثقافي و"السياسي".
وبوسعنا القول إنه خلال تاريخه أدى الأدب والفن العراقي لا وظيفة جمالية محضة حسب، وإنما، أيضا، وظيفة اجتماعية، وطنية وأخلاقية وفلسفية. فالشيوعيون، وسائر التنويريين، بل وعموم الناس، يرون في الأدباء والفنانين الممثلين الرئيسيين والأبطال المبدعين في مجال الثقافة، ويعتبر الكاتب بالنسبة لنا تجسيدا للضمير والوعي الاجتماعي. وهذه من السمات الأساسية للثقافة الجمالية التي جسدتها مواقف الحزب الشيوعي العراقي في الميدان الثقافي.
إن دراسة تاريخ الثقافة الجمالية، والحركة الثقافية عموما، غير ممكنة من دون دراسة تأثير الأفكار الماركسية والحزب الشيوعي على المثقفين. ولعله من الضروري العودة إلى دور جماعة حسين الرحال (أول جماعة ماركسية في أوائل عشرينيات القرن الماضي). غير أن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934 مثّل مرحلة جديدة في الموقف من الثقافة. ومن الهام التذكير بدور مؤسس الحزب، يوسف سلمان يوسف (فهد)، وعلاقته بالمثقفين وجدله الفكري معهم. ولابد، بالطبع، من الإشارة إلى دور حسين محمد الشبيبي وكتاباته، خصوصا في مجال النقد وجماليات الأدب، وبحثه في التراث وربطه بالمعاصرة.
لقد كانت فترة الأربعينيات والخمسينيات فترة مميزة أرسيت فيها أسس الموقف الماركسي من الثقافة الجمالية، وهي الأسس التي ظل الحزب يسترشد بها ويغنيها في العقود اللاحقة وحتى الآن. ومما له أهمية متميزة صدور مجلة (الثقافة الجديدة) عام 1953. وقد استطاعت المجلة أن تساهم في تأسيس مشروع الحزب الثقافي الفكري والأدبي والفني. ومن خلالها تبنى الحزب مشروعات الحداثة والتجديد، سواء في الحركة الشعرية، أو في ميدان القصة والرواية، والمسرح، والفن التشكيلي، وحتى في الشعر الشعبي. ومن الصحيح القول إن الحزب كان محرك هذه الحركات التجديدية التنويرية، ومحور الثقافة الجمالية.
إن نظرة إلى محتويات العدد الأول من مجلة "الثقافة الجديدة" تكشف لنا موقف الحزب من الثقافة الجمالية، وهو الموقف الذي اغتنى في سنوات السبعينيات، وظل يغتني على الدوام، كما يشهد على ذلك الدور المتميز الذي يقوم به الحزب ومجلته (الثقافة الجديدة) وصحيفته (طريق الشعب)، وملحقها الثقافي، وسائر وسائل إعلامه في الوقت الحاضر.
ولعل من بين القضايا الاشكالية الراهنة، اليوم، تلك المتعلقة بعلاقة الحزب بالمثقفين، وهي موضوعة جديرة بالدراسة العميقة، وإعادة النظر في ضوء منهجيتنا النقدية ورؤيتنا الماركسية.
أما مداخلة الكاتب عبد المنعم الاعسم فكانت كالآتي:
حدثت تغيرات كبيرة طالت العملية الاتصالية على مستوى المرسل والمستقبل او على الرسالة وأهدافها وطرق صياغتها والوظائف الرئيسة لعملية الاتصال والتواصل إذ امتدت في تأثيراتها على المجتمع العراقي وتقاليده وسياقات عمله، بخاصة وأن هذا المجتمع يتألف من شرائح تتباين في مستوياتها الوعي والمصالح الفئوية.
وعندما نقول الإعلام العراقي فإننا نميز بين ثلاث مجموعات، حكومية وحزبية ومستقلة، كما نؤشر دور كل من شبكة الإعلام العراقي وهيئة الإعلام والاتصالات، والتنظيمات النقابية، ويمكن القول إن المحاصصة والفساد والارتجالية ضربت هذه المؤسسات بالعمق، وقد تحولت إلى وسائل ترزق وكسر شوكة الآخر وإرهاب الرأي العام بهز عصا الملاحقة ومنع الظهور على الفضائيات المحلية، وليس من دون دلالة أن تنحط سمعة هذه المراجع على مستويات أوسع من الساحة العراقية وقد عبر ذلك عن نفسه في الاحتجاجات التي أطلقتها منظمات حقوق الانسان وحرية التعبير في العالم حيال التضييقات الممنهجة على حرية التعبير في العراق".
كما نؤشر الضغوط والملاحقة المالية والقضائية على وسائل الإعلام المستقلة التي اضطر العشرات منها إلى التوقف او التحول إلى النشر في الوسائل الرقمية.
وبواسطة تراخيص استخدام الفضاء جرى التضييق على حرية التعبير، وتحميل الأقنية الإعلامية المعنية، غير الحكومية، رسوم تعجيزية بغرض إغلاقها، إلى جانب القوانين والتشريعات الزجرية التي صيغت بطريقة تكبل الحريات والآراء والاتجاهات المستقلة والمعارضة، وتحولت المرجعية الرسمية "هيئة الإعلام والاتصالات" إلى هراوة بيد السلطة وأحزابها للجم الاقنية الإعلامية بما فيها وكالات الأنباء ومكاتب الفضائيات العالمية، على الرغم من أن تلك الهيئة مستقلة، وفق الأمر الذي تشكلت بموجبه.
بل أن التضييق اتخذ أسلوبا ممنهجا في ملاحقة ومعاقبة وسائل التواصل الاجتماعي التي لجأ إليها الناشطون، وشهدت السنتان الأخيرتان من عمر الحكومة أبشع حملات التخويف والتهديد والإحالة على القضاء لمدونين مدنيين، وتم إغلاق منصات عديدة بتهم تسويد صفحات المسؤولين، في حين غُض النظر، بقصد، عن أقنية وأصوات ومنصات طائفية تُنتج الكراهية والعداوة والعنصرية، وتغطي أعمال الفساد وتلمع ابطاله، بل وتملأ الفضاء المحتقن أصلا بالتهديدات واستعراض القوة، وليس من دون مغزى أن تصل سمعة العراق فيما تعلق بحرية التعبير وحماية الحقوق المدنية إلى مستويات مقلقة، الأمر الذي لفتت له المنظمات الحقوقية الدولية والهيئات ذات الصلة بحرية التعبير.