اخر الاخبار

يأخذ الصراع، في بلادنا ، بين التيار المدني العقلاني التنويري واليسار الديمقراطي من جهة والتيار المحافظ اليميني أشكالا متنوعة. لعل أكثرها بروزا هو الجانب الفكري. والحقيقة أن كل تاريخ الصراع السياسي بين الطبقات والتيارات الثقافية المنبثقة عنها يستند في أساسياته على التناقضات الفكرية بين أطراف الصراع بعد أن يكون التناقض الطبقي والاقتصادي قد ترسخت مساراته وتعمقت. وعندما نشير إلى التناقضات الفكرية فإننا نتطلع إلى تأكيد حقيقة أن ما يجري من صراع في بلادنا ليس من باب الاختلافات العابرة والبسيطة، كما يميل البعض إلى تسطيحها ، إنما هو شكل واضح لفراق حاد في الفكر والثقافة والسلوك وفي البنى الأيديولوجية وما ينجم عنها من قناعات والتزامات ومواقف. 

هناك حقائق أثقل من الجبال لكن البعض يتغاضى عنها أو لا يدركها أصلا:

1 - أن التناسب بين المستوى الحضاري لمجتمع ما وبين المستوى الثقافي السائد فيه هو تناسب طردي بامتياز ولا يقبل أية صيغة أخرى إلا عن طريق الشواذ.

2 - كلما اتسعت القاعدة الاجتماعية للتيار الغالب فكريا وثقافيا اتسعت تأثيراته الاجتماعية والثقافية أيضا وتسهم قاعدته الاجتماعية في تحقيق غاياته وتنفيذ توجهاته.

3 - للعلاقة بين الفكر السائد وقاعدته الاجتماعية تعقيدات وأسرار فاعلة تنعكس على طبيعة التفاعلات بين الطرفين. ومما ينبغي الانتباه إليه هو أن هذين الطرفين ( الفكر السائد والقاعدة الاجتماعية) يغذي كلٌّ منهما الآخر بمصول الحياة والبقاء وحتى التطور.

4 - وعندما تكون الثقافة السائدة مدعومة من السلطة بل وموجهة من قبلها وتستند إليها وتتبادل معها التكامل الوجودي والمنفعي فإن تأثيراتها على قاعدتها الاجتماعية تكون أقوى وأشد ، وبالتالي فإن هذه الأخيرة ستنتج بدورها حالات اخطبوطية غريبة ترتبط بها وبمصادرها الفكرية.

5 - والحال أن هذا الامتداد الفكري والثقافي سيستقر عند الفرد المواطن الواحد لتجرده من كل قدراته الإنسانية على التفكير باستقلالية وتحول دون تمكنه من الاستقراء الصحيح الحر للواقع وللتاريخ وللمعرفة بكل عوالمها.

6 - إحدى أهم آليات الهيمنة الفكرية على الأتباع هنا سيكون النص وما ادراك ما النص؟. وفي ظني أن سكان الشرق وبسبب من هيمنة الثقافة الروحية والفكر الديني هو أكثر مواطني الكرة الأرضية تعلقا بالنص. والتعلق هذا يتمظهر بالتقديس الذي لا يسمح بأي حال من مراجعة فكرية ذاتية للنصوص. وهناك أزمة مركبة داخل هذه الإشكالية. وهي أن تقديس النص يستتبعه تقديس صاحب النص. وينسحب هذا على المفسرين والمحدثين وأصحاب المدارس الفكرية المرتبطة بعلوم النص. هذه مشكلة لكنها تكبر عندما ننتبه إلى أن بعض النصوص التي تحتاج إلى تفسير وتوضيح خضعت إلى ما يسمى بالتأويل الذي هو الآخر يرتدي ثياب التقديس ، هو وصاحبه.

7 - سلسلة التقديس هذه أدت في ثقافة الشرق الدينية ومنها بلادنا إلى دفع صاحب النص الأصلي الأول إلى عالم النسيان وإهماله تماما وتأليه المفسرين بل المؤولين بدلا عنه. وهنا تكمن الحلقة ألأكثر خطورة في هيمنة الفكر المستند على تأليه النص ومن يقف وراءه.

8 - هؤلاء الواقفون وراء النصوص المقدسة يهيمنون على شتى أنواع السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية. في الفكر الديمقراطي لا وجود لشيء إسمه (تقديس) سوى الوطن والإنسان وحقوقه. وعلى الرغم من وجود عناصر الرؤيا تنطبق على الكثير من الحالات نجد أن الديمقراطية تنويرية وتقدمية بطبيعتها. لا تؤله نصوصا ولا الواقفين وراءها. وبالتالي فهي لا تؤله أشخاصا بعينهم أكثر من الاعتبارات الأدبية والأخلاقية للمبدعين والمفكرين والفلاسفة والمثقفين. في الثقافة التقدمية لا يوجد سلاطين للفكر ولا للعمل السياسي إنما يكون الاهتمام للحراك الوطني الإنساني وللبناء الحضاري المتطور في تفاعله مع الواقع والمتفتح على التغيرات المتواصلة غير المنقطعة وغير المرتبطة بشخوص معينين ولا بنصوص ثابتة غير قابلة للمراجعة والنقد. إن من أهم مميزات الثقافة التقدمية وتأثيراتها الاجتماعية هو التفكير النقدي. هذا التفكير الذي يمتد إلى أعماق تاريخ الفلسفة الأولى عندما تعرضت فلسفة طاليس في فكرة “ التغيير والعنصر الثابت الذي لا يتغير” إلى نقد معاصريه وزملائه تحديدا مثل أناكسيماندر وأناكسيمينيس الذين رفضا أن يكون الماء هو أصل الوجود. وتواصل التفكير النقدي بعدهما لتتوجه الفلسفة الألمانية على يد كانت وهيكل وفويرباخ وكارل ماركس الذي رفض أن تكون مهمة الفلسفة تفسير العالم بل مهمتها الأساس تكمن في تغيير العالم. ثم راح التفكير النقدي يتواصل ويتطور حتى أصبح سلاحا ناجعا في التحليل والاستنباط ووضع الخطط والمراجعات الدائمة لكل النصوص والبرامج والمنظومات. الفكر التقدمي فكر تغيير متواصل وحضارة متطورة باستمرار ويقوم في كل منطلقاته على تفسير الواقع القائم المباشر أمام أعيننا وتحليل ركائزه ثم وضع السياسات الأنسب في مواجهة ما ينبغي تغييره وما يمكن تطويره. في بلادنا يكمن الصراع بين هاتين المدرستين. مدرسة هيمنة النصوص والتقديس والتمسك بالتراث دونما مراجعة نقدية واقعية جريئة ومسؤولة للاستفادة مما يزخر به تراثنا الثقافي من غنى وتوظيفه لخدمة الإنسان والمجتمع في عالم جديد يستند على التطور الحضاري والعلمي، ومدرسة أخرى ذات فكر إنساني تقدمي يعتمد الديمقراطية الحقيقية في حل كل ما يتطلب تدخلا مباشرا. مدرسة تلغي الإنسان ودوره في التفكير النقدي الحر ومراجعة المسلمات دائما ومدرسة غيرها تعتمد الإنسان وقيمته المصانة وكامل حقوقه في كل مناحي حياته ووجوده ومستقبله. أن الصراع بين النور والظلام ينتهي دائما بانتصار مشاعل النور وحملتها وهذا تاريخ البشرية كله يؤكد ذلك.