على الرغم من أهمية التطبيقات الذكية التي تحاكي في تصميمها آليّةَ عمل العقل البشري إلاّ أنّ المعضلة الأساس التي ترافق هذا النوع من التقنيات تكمن أوّلا في بنية تفكير من يتبنّى استخداماتها. و الأمر لا يتعلق بزمننا الحاضر وحسب بل انّ القلق ابتدأ يساور الإنسان منذ التباشير الأولى للثورة الصناعية قبل قرنين من الزمان ونيّف . فاذا اتفقنا ان الانسان عدوّ ما يجهل فانّ ما يتمتّع به من طاقة واصرار وايمان بعدالة قضاياه كان كافيا لأن يجعله يفكك مايعثر عليه من بين الأنقاض ليتعلم ويعيد تجميع مايصلح منه ولعل في تجربة الشعب الفيتنامي انصع الأمثلة إبان مقاومته الباسلة ضد الأمريكان. غير ان الجهل هذه المرّة غير كلّ المرّات فهو تام و عام ومخاوفه جمّة يصعب معها التكهّن بمستقبل لايتعدّى الساعات القليلة الآتية!! .وقد اتسعت رقعة الصراع وتنوّعتْ مظاهر الاستغلال وتباينت شدّتهُ ولم يعد الوعي الطبقي مقتصرا على الفرز التقليدي للطبقة ، فالمنجز التقني الخارق حديث الساعة الذي تتناوله اليوم كلّ الأوساط المجتمعية والاعلامية إنّما هو خلاصة قد وضعتها نخبة من العقول المتقدّمة تحت مسمّى الذكاء الاصطناعي وهو منجز سبراني لغوي متفوّق يخاطب الآخر بدواعي مختلفة ليس بالضرورة ان تكون محدّدة بمكان أو زمان أو هويةّ ولا بقصد حرب أو سِلْم ، وتحدّد وجهتهُ شفرات سرّية لايمكن كشفها الّا من قبل غرفة قيادة معلوماتية مركزية يقف وراءها مصمّموها ومتعاطوها بكامل طموحاتهم المشروعة وغير المشروعة .
فمنذ ان اخترق الانسان عوالم الذرّة ونجح في التوصّل الى عزل محتوياتها و اختبار طرائق دمجها فشكّل بذلك , في بادئ الأمر ، فتحا سلميا كبيرا قدّم خدمة عظمى للبشرية حين استُحدِثَتْ من خلاله آفاقٌ طبيّة وظّفتْ المجال النووي ونجحت في التصدّي لحالات مرضية مستعصية . غير انّ التوجّهات السلمية هذه لم تستمرّ طويلا إذ تفتّقتْ بإزائها إمكانات خبيئة خبيثة باشرت بتحوير المعادلة العلمية بغية إنتاج قنبلة ذريّة أودتْ بحياة ستة ملايين نسمة في دقائق وقتلت كل ما يمتّ للخلية الحيّة بصلة من بشر وشجر وحيوانات وأحالت مدينتي هيروشيما وناكازاكي الى رغوتين بيضاوتين كما صوّرهما الطيران الحربي الأمريكي عام 1945 ,انتحر على إثر تلك الغارة معظم طيّاريها و آخرهم مات في حانة بعد سُكْر وهذيان جنونيّين .والشيء بالشيء يُذكَر فما حدث قبل ايام في لبنان الحبيبة ماهو إلاّ حصاد أوّلي لروح الشرّ المزروعة بقذارة من قبل الكيان الصهيوني الغاصب في شريحة هاتف دون رادع أخلاقي أو وازع إنسانيّ ليهاجم مواطنين آمنين وماهم بآمنين طالما انّ جارهم مريض تاريخي ووباء عنصري زرعتهُ الرأسمالية العالمية وهيأت من أجل استمرارهِ كلّ عوامل القوة ومختلف الذرائع الجبانة الجاهزة لتبرير انتهاكاته وجرائمهِ على مدى خمسة وسبعين عاما . إنّ مايشغل الذهن البشري اليوم ويشتغل عليه المفكّرون يبحث في انعكاسات التطوّر المادّي للتاريخ على الصراع و الذي لم يعد تصنيفهُ تقليديا مقتصرا على مقاسات الطبقة أو الفروقات الدينية و الإثنية بين سائر اشكال التجمعات البشرية التي أصبح خيارُ الإبادة الجماعية ضدّها قرارا مفروغا منه لدى الفاشيّة العالمية بوصفها حاضنة ارهاب و بنية تفكير منغلقة على ذات استعمارية استحواذية سايكوباثية بامتياز ، فيتّخذ الصراع اليوم شكلا مضافا من الفارق الزمني بين شرق وغرب, بين ناطقين بالسبرانية وآخر لايجيد سوى لغته الأمّ. فالزمن الذي تقطعه الروبوتات للتفكير والتنفيذ يحسب بالميكروثانية واجزائها في وقت نجد فيه شعوب الله في ارض الله مازالت تتعامل بوحدات بطيئة الرتم كالأيام والساعات والدقيقة في أحسن حالاتها مايرسّخ التوهّم في انّنا نتعامل ان اجيز هذا التعامل في ظلّ الواقع السبراني الجديد مع كائنات تعيش معنا على كوكبنا وتبتعد عنا مسافة الكواكب والمجرّات !!. هذه الكائنات لا وقت لديها للتخيل والتوقّع ، لمشاعر الخوف او الشفقة ،انها تثبّت شيفرتها وتنفّذ وتمضي ! ، أمّا نحن فنحلم ونتخيّل ، نتخيل لأنّنا نخاف من وعلى !!..فالمخيّلة مأوى لكنّ هذا المأوى لم يعد آمنا !!. والا لماذا عدّت الروبوتات ، للحظة نحس ، أنّ بعض نشاطاتنا بالنسبة لها دورة فايروسية تهدر وقتها الثمين !! ، حتما عندئذ ستزاول حماية ذاتها بكلّ ما أوتيتْ من برامج مناسبة ،وهذا من حقها ,فتقوم بتحديث حضورها المطلق كايّ طاغية مرسلة الإيعازات لتنظيف الأجواء منّا !! ، ما يعزّز مقوّمات وجودها بإزاء خلق أزمة وجوديّة لنا وليُنتزَع منّا بأجزاء الثانية وطننا وتراثنا وثرواتنا ولنصبح في ثوان معدودات نسياً منسيّاً !!.
إنّ منجزا ذكيا تتحكم به نوازع نفسية مقلقة وبنية تفكير غير أمنة ينذر بمواجهات غير متكافئة وبتقهقر نحو مجتمع غاب تقليدي يشكّل تهديدا صريحا للطبيعة وللوجود بأسرهِ مالم تكن استخداماته مقيّدة بقوانين صارمة منحازة الى الانسان و الى كل ما يضمن حقوقه في حياة آمنة حرّة كريمة.